إنه راجع إلى المهاجرين ، أي : لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبروا. وروي أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له : خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله به في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل. ثم يقرأ هذه الآية.
وقوله تعالى : (الَّذِينَ صَبَرُوا) أي : على الشدائد وعلى مفارقة الوطن الذي هو حرم الله وعلى المجاهدة وبذل الأموال والأنفس في سبيل الله محله رفع على تقديرهم أو نصب على المدح ، ويجوز أن يكون تابعا للموصول قبله نعتا أو بدلا أو بيانا فمحله محله (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي : منقطعين إليه مفوّضين الأمر كله إليه.
تنبيه : ذكر الله تعالى في هذه الآية الصبر والتوكل وهما مبدأ السلوك إلى الله تعالى ومنتهاه ، وأمّا الصبر فهو قهر النفس وحبسها على أعمال البر وسائر الطاعات واحتمال الأذى من الخلق. وأمّا التوكل فهو الانقطاع عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق كما مرّت الإشارة إليه فالأوّل هو مبدأ السلوك والثاني هو آخر الطريق ومنتهاه.
ونزل لما أنكر مشركو مكة نبوّة محمد صلىاللهعليهوسلم وقالوا الله أعظم وأجل أن يكون ورسوله بشرا فهلا بعث ملكا إلينا : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) يا محمد إلى الأمم من طوائف البشر (إِلَّا رِجالاً) لا ملائكة بل آدميين هم في غاية الاقتدار على الصبر والتوكل الذي هو محط الرحال. (نُوحِي إِلَيْهِمْ) بواسطة الملائكة فعادة الله جارية مستمرّة من أوّل مبتدأ الخلق إلى الآن لم يبعث رسولا إلا من البشر. (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) أي : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى وإنما أمر هم الله تعالى بسؤالهم لأنّ كفار مكة كانوا يعتقدون أنّ أهل الكتاب أهل علم وقد أرسل إليهم رسلا مثل موسى وعيسى عليهماالسلام من البشر وكانوا بشرا مثلهم فإذا سألوهم فلا بدّ أن يخبروهم أنّ الرسل الذين أرسلوا إليهم كانوا بشرا فإذا أخبروهم بذلك فربما زالت هذه الشبهة وقال ابن عباس : يريد أهل التوراة والدليل عليه قوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء ، ١٠٥] يعني التوارة ، والذكر هو التوارة. وقال الزجاج : معناه أسألوا كل من يذكر بعلم وتحقيق. ولما كان عندهم أحسن من ذلك سماع أخبار الأمم قبلهم أشار إليه بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ) أي : جبلة وطبعا (لا تَعْلَمُونَ) ذلك فإنهم يعلمونه وأنتم إلى تصديقه أقرب من تصديق المؤمنين بمحمد صلىاللهعليهوسلم ، وقوله تعالى : (بِالْبَيِّناتِ) متعلق بمحذوف ، أي : أرسلناهم بالحجج الواضحة وقيل : التقدير إن كنتم لا تعلمون بالبينات (وَالزُّبُرِ) أي : الكتب فأسألوا أهل الذكر. وقيل : إنه متعلق بمحذوف جواب لسؤال مقدّر كأنه قيل : بم أرسلوا؟ فقيل : أرسلوا بالبينات والزبر.
وقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) خطاب للنبيّ صلىاللهعليهوسلم ، والذكر هو القرآن وإنما سمي ذكرا لأنه موعظة وتذكير (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) كافة ، أي : أعطاك الله تعالى من الفهم الذي فقت فيه جميع الخلق واللسان الذي هو أعظم الألسنة وأفصحها ، وقد أوصلك الله تعالى فيه إلى رتبة لم يصل إليها أحد (ما نُزِّلَ) أي : ما وقع تنزيله (إِلَيْهِمْ) من هذا الشرع المؤدّي إلى سعادة الدارين بتبيين المجمل وشرح ما أشكل من علم أصول الدين الذي رأسه التوحيد ومن البعث وغيره فإنّ القرآن فيه محكم وفيه متشابه فالمحكم يجب أن يكون مبينا والمتشابه هو المجمل فيطلب بيانه من السنة. (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) فيما أنزل إليهم إذا نظروا أساليبه الفائقة ومعانيه العالية الرائقة فيعتبرون. فإن قيل : إنّ هذه الآية تدل على أنّ المبين لكل التكاليف والأحكام هو النبيّ صلىاللهعليهوسلم فالقياس ليس بحجة؟