إليها القصد. وقال : (وَمِنْها) أي : السبيل (جائِرٌ) أي : حائد عن الاستقامة. فإن قيل : هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يجب عليه الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار كما قال به المعتزلة لأنه تعالى قال : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.) وكلمة على للوجوب. قال تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران ، ٩٧] أجيب : بأنّ المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح. فإن قيل : لم غير أسلوب الكلام حيث قال في الأوّل : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ.) وفي الثاني : (وَمِنْها جائِرٌ) دون وعليه جائر؟ أجيب : بأنّ المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. ثم قال تعالى : (وَلَوْ شاءَ) هدايتكم (لَهَداكُمْ) إلى قصد السبيل (أَجْمَعِينَ) فتهتدون إليه باختيار منكم. قال الرازي : وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى ما شاء هداية الكفار وما أراد منهم الإيمان لأنّ كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره.
ولما ذكر تعالى نعمه على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة عقبه بذكر إنزال المطر لأنه من أعظم النعم على عباده فقال :
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩))
(هُوَ) أي : لا غيره مما تدعى فيه الإلهية (الَّذِي أَنْزَلَ) أي : بقدرته الباهرة (مِنَ السَّماءِ) إمّا من نفسها أو من غيرها أو من جهتها أو من السحاب كما هو مشاهد (ماءً) أي : واحدا تحسونه بالذوق والبصر (لَكُمْ مِنْهُ) أي : من ذلك الماء (شَرابٌ) أي : تشربونه وقد بيّن تعالى في آية أخرى أنّ هذه النعمة جليلة فقال : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء ، ٣٠]. فإن قيل : ظاهر هذا أنّ شرابنا ليس إلا من المطر؟ أجيب : بأنه تعالى لم ينف أن يشرب من غيره وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر سكن هناك بدليل قوله في سورة المؤمنون : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) [المؤمنون ، ١٨]. (وَمِنْهُ) أي : من الماء (شَجَرٌ) أي : ينبت بسببه والشجر هنا كل نبات من الأرض حتى الكلأ وفي الحديث : «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» (١) يعني الكلأ. فإن قيل : قال المفسرون : في قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن ، ٦] المراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق؟ أجيب : بأن عطف الجنس على النوع وبالضدّ مشهور وأيضا فلفظ الشجر يشعر بالاختلاط
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف ٧٣٤.