يقال : تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض وتشاجرت الرياح إذا اختلطت وقال تعالى : (حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء ، ٦٥] ومعنى الاختلاط حاصل في العشب والكلأ. فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه ويصح أن يكون المراد بالشجر هنا ما له ساق لأنّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وحينئذ فإطلاق الشجر على الكلأ مجاز. (فِيهِ) أي : الشجر (تُسِيمُونَ) أي : ترعون مواشيكم يقال : أسمت الماشية إذا خليتها ترعى وسامت هي إذا رعت حيث شاءت. قال الزجاج : أخذ ذلك من السومة وهي العلامة لأنها تؤثر في الأرض برعيها علامات وقال غيره : لأنها تعلم الإرسال في المرعى.
ولما ذكر تعالى الحيوانات تفصيلا وإجمالا ذكر الثمار تفصيلا وإجمالا بقوله تعالى : (يُنْبِتُ) أي : الله (لَكُمْ بِهِ) أي : بذلك الماء (الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) فبدأ بذكر الزرع وهو الحبّ الذي يقتات به كالحنطة والشعير والأرز لأن به قوام البدن بذكر الزيتون لما فيه من الأدم والدهن وبارك فيه وثلث بذكر النخيل لأنّ ثمرها غذاء وفاكهة وختم بذكر الأعناب لأنه شبيه النخيل في المنفعة من التفكه والتغذية ثم ذكر تعالى سائر الثمار إجمالا لينبه بذلك على عظيم قدرته وجزيل نعمته على عباده لأنّ الحبة الواحدة تقع في الطين فإذا مضى عليها مقدار معين من الوقت نفذ في داخل تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض ونداوتها فتنفتح الحبة فينشق أعلاها وأسفلها فيخرج من أعلى تلك الحبة شجرة صاعدة من داخل الأرض إلى الهواء ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في قعر الأرض وهذه الغائصة هي المسماة بعروق الشجرة ثم إن تلك الشجرة لا تزال تزداد وتنمو وتقوى ثم تخرج منها الأوراق والأزهار والأكمام والثمار ثم إنّ تلك الثمرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع مثل العنب ، فإنّ قشره وعجمه باردان يابسان كثيفان ولحمه وماؤه حاران رطبان لطيفان وإلى ذلك الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) بينة على أنّ فاعل ذلك تام القدرة يقدر على الإعادة وأنه مختار يفعل ذلك في الوقت الذي يريده وإنما تحصل معرفة ذلك (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيما ذكر من دلائل قدرته ووحدانيته فيؤمنون.
ثم ذكر سبحانه وتعالى أشياء تدلّ على أنه الفاعل المختار بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ) أي : أيها الناس لإصلاح أحوالكم (اللَّيْلَ) للسكنى (وَالنَّهارَ) للمعاش. ثم ذكر آية النهار فقال : (وَالشَّمْسَ) أي : لمنافع اختصاصها ثم آية الليل فقال : (وَالْقَمَرَ) لأمور علقها به (وَالنُّجُومُ) أي : الآيات نصبها لها. ثم نبه على تغيرها بقوله تعالى : (مُسَخَّراتٌ) أي : بأنواع التغير لما خلقها له على أوضاع دبرها (بِأَمْرِهِ) أي : بإرادته سببا لصلاحكم وصلاح ما به قوامكم دلالة على وحدانيته تعالى وفعله بالاختيار ولو شاء تعالى لأقام أسبابا غيرها أو أغنى عن الأسباب. وقرأ ابن عامر برفع الأربع وهي الشمس والقمر والنجوم ومسخرات على الابتداء والخبر ووافقه حفص في الاثنين الأخيرين والنجوم مسخرات لا غير والباقون بالنصب عطفا على ما قبله في الثلاثة الأول وفي الرابع وهو مسخرات على الحال. ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه الأشياء وجعلها مسخرات لمنافع عباده ختم ذلك بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : التسخير العظيم (لَآياتٍ) أي : دلالات متعدّدة كثيرة عظيمة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) أي : يتدبرون فيعلمون أنّ جميع الخلق تحت قدره وقدرته وتسخيره لما أراده منهم.
وقوله تعالى : (وَما ذَرَأَ) أي : خلق (لَكُمْ فِي الْأَرْضِ) عطف على الليل ، أي : وسخر لكم