ثم إنه تعالى
لما صبره على أذى قومه رغبّه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم بقوله تعالى : (فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) أي : أعرض عنهم إعراضا لا جزع فيه ولا تعجل بالانتقام
منهم وهذا منسوخ بآية السيف. قال الرازي : وهو بعيد لأنّ المقصود من ذلك أن يظهر
الخلق الحسن والصفو والصفح فكيف يصير منسوخا اه. والأوّل جرى عليه البغوي وجماعة
من المفسرين.
ثم علل تعالى
هذا الأمر بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك الآمر لك بهذا (هُوَ) أي : وحده (الْخَلَّاقُ) أي : المتكرر منه هذا الفعل (الْعَلِيمُ) أي : البالغ العلم بكل المعلومات فليست أقوالهم
وأفعالهم إلا منه سبحانه وتعالى لأنه خالقها وقد علمت أنه لا يضيع مثقال ذرة
فاعتمد عليه في أخذ حقك فإنه نعم المولى ونعم النصير.
ولما صبره الله
تعالى على أذى قومه وأمره أن يصفح الصفح الجميل ، أتبع ذلك بذكر النعم العظيمة
التي خص الله تعالى أفضل خلقه بها بقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ) يا أفضل الخلق بما لنا من العظمة والقدرة ، كما آتينا
صالحا ما تقدّم (سَبْعاً) يكون كل سبع منها كفيلا بإغلاق باب أبواب من النيران
السبعة وهي أم القرآن الجامعة لجميع معاني القرآن التي أمرنا بإعادتها في كل ركعة
زيادة في حفظها وتبرّكا بلفظها وتذكرا لمعانيها وتخصيصا لها عن بقية الذكر الذي
تكفلنا بحفظه ، والسبب في وقوع هذا الاسم على الفاتحة لأنها سبع آيات وهذا ما عليه
أكثر المفسرين. روي أنه صلىاللهعليهوسلم قرأ الفاتحة وقال : «هي السبع المثاني» . رواه أبو هريرة ، وقيل : المراد سبع سور وهي الطوال.
واختلف في السابعة فقيل : الأنفال وبراءة لأنهما في حكم سورة ولذلك لم يفصل بينهما
بآية البسملة ، وقيل : الحواميم السبع ، وقيل : سبع صحائف وهي الأسباع وقوله تعالى
: (مِنَ الْمَثانِي) صفة للسبع وهو جمع واحدة مثناة والمثناة كل شيء يثنى ،
أي : يجعل اثنين من قولك : ثنيت الشيء ثنيا ، أي : عطفته وضممت إليه آخر ومنه يقال
لركبتي الدابة ومرفقيها مثاني ، لأنها تثنى بالفخذ والعضد ومثاني الوادي معاطفه.
أما تسمية الفاتحة بالمثاني فلوجوه : الأوّل : أنها تثنى في كل صلاة بمعنى أنها
تقرأ في كل ركعة. الثاني : أنها تثنى بما بعدها فيما يقرأ معها. الثالث : أنها
قسمت قسمين اثنين لما روي أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «يقول الله تعالى قسمت الصلاة بيني وبين عبدي
نصفين» والحديث مشهور ، وقد ذكرته في وجه تسميتها صلاة عند
ذكرها. الرابع : أنها قسمان اثنان ثناء ودعاء وأيضا النصف الأوّل منها حق الربوبية
وهو الثناء ، والنصف الثاني حق العبودية وهو الدعاء. الخامس : أنّ كلماتها مثناة
مثل (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ ، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ.) وأما السور والأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص
والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ، ولما فيها من الثناء كأنها تثنى على الله
تعالى بأفعاله العظمى وصفاته الحسنى.
تنبيه : من في (مِنَ الْمَثانِي) إما للبيان أو للتبعيض ، إذا أردت بالسبع الفاتحة أو
الطوال
__________________