المطلوب بالدعاء إيصال بعض الثمرات إليهم ، ويحتمل أن يكون المراد بإيصال بعض الثمرات إليهم إيصالها إليهم على سبيل التجارات كما قال تعالى : (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) [القصص ، ٥٧] حتى توجد فيه الفواكه الصيفية والربيعية والخريفية في يوم واحد ، وليس ذلك من آياته بعجب ، وأن يكون المراد عمارة القرى بالقرب منها لتحصل تلك الثمار. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : كانت الطائف من أرض فلسطين ، فلما قال إبراهيم ذلك رفعها الله فوضعها حيث وضعها رزقا للحرم. (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) يدلّ على أنّ المقصود للعاقل من منافع الدنيا أن يتفرّغ لأداء العبادات وإقامة الطاعات ، فإنّ إبراهيم عليهالسلام بين أنه إنما طلب تيسير المنافع على أولاده لأجل أن يتفرّغوا لإقامة الطاعات وأداء الواجبات. ولما طلب عليهالسلام من الله تعالى تيسير المنافع لأولاده وتسهيلها عليهم ذكر أنه لا يعلم عواقب الأحوال ونهاية الأمور في المستقبل ، فإنه تعالى هو العالم بها والمحيط بأسرارها فقال : (رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي ،) أي : نسر (وَما نُعْلِنُ) وهذا هو المطلوب الرابع : والمعنى : أنك أعلم بأحوالنا ومصالحنا ومفاسدنا منا ، قيل : ما نخفي من الوجد بسبب حصول الفرقة بيني وبين إسماعيل ، وما نعلن من البكاء ، وقيل : ما نخفي من الحزن المتمكن في القلب وما نعلن يريد ما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع : إلى من تكلنا؟ قال : إلى الله أكلكم قالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم. قالت : إذا لا يضيعنا. واختلف في قوله تعالى : (وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) فقيل : من تتمة قول إبراهيم عليهالسلام يعني : وما يخفى على الله الذي هو عالم الغيب من شيء في أيّ مكان ، والأكثرون على أنه قول الله تعالى تصديقا لإبراهيم فيما قال ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) [النمل ، ٣٤] ولفظة من تفيد الاستغراق ، كأنه قيل وما يخفى عليه شيء ما.
ولما تم إبراهيم عليهالسلام ما دعا به أتبعه الحمد على ما رزقه من النعم بقوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ،) أي : المستجمع لصفات الكمال (الَّذِي وَهَبَ لِي ،) أي : أعطاني (عَلَى الْكِبَرِ ،) أي : وهب لي وأنا كبير آيس من الولد ، قيد الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة وإظهارا لما فيه من المعجزة (إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ومقدار ذلك السنّ غير معلوم من القرآن وإنما يرجع فيه إلى الروايات ، فقال ابن عباس : ولد إسماعيل لإبراهيم وهو ابن تسع وتسعين سنة ، وولد له إسحاق وهو ابن مئة واثنتي عشرة سنة.
فإن قيل : إنّ إبراهيم عليهالسلام إنما ذكر هذا الدعاء عند ما أسكن إسماعيل وأمّه في ذلك الوادي ، وفي ذلك الوقت ما ولد إسحاق ، فكيف يمكنه أن يقول ذلك؟ أجيب : بأن هذا يقتضي أنّ إبراهيم إنما ذكر هذا الكلام في زمن آخر لا عقب ما تقدّم من الدعاء. قال الرازي : ويمكن أيضا أن يقال : إنه عليهالسلام إنما ذكر هذا الدعاء بعد كبر إسماعيل وظهور إسحاق ، وإن كان ظاهر الروايات بخلافه انتهى. تنبيه : قوله (عَلَى الْكِبَرِ) بمعنى مع كقوله (١) :
إني على ما ترين من كبري |
|
أعلم من حيث يؤكل الكتف |
وهو في موضع الحال. ولما ذكر الدعاء على سبيل الرمز والتعريض لا على وجه الإفصاح
__________________
(١) البيت من المنسرح ، وهو لقيس بن الخطيم في ديوانه ص ٢٣٩ ، وبلا نسبة في الإيضاح في علوم البلاغة ١ / ١٩٤ ، وشرح كتاب الأمثال للبكري ١ / ١٤٢.