ولا يقال دار بالبيت. قال الرازي : وهذا الجواب ليس بقوي ؛ لأنه عليهالسلام لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله ، والحجر كالصنم في ذلك.
ثم حكى الله تعالى عن إبراهيم أنه قال : (رَبِّ إِنَّهُنَّ ،) أي : الأصنام (أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) بعبادتهم لها.
تنبيه : اتفق كل الفرق على أن قوله : أضللن مجاز ؛ لأنها جمادات ، والجماد لا يفعل شيئا البتة إلا أنه لما حصل عند عبادتها أضيف إليها كما تقول : فتنتهم الدنيا وغرّتهم ، أي : افتتنوا بها واغتروا بسببها ثم قال : (فَمَنْ تَبِعَنِي ،) أي : على التوحيد (فَإِنَّهُ مِنِّي ،) أي : فإنه جار مجرى بعضي لفرط اختصاصه بي وقربه مني (وَمَنْ عَصانِي ،) أي : في غير الدين (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهذا صريح في طلب الرحمة والمغفرة لأولئك العصاة ، وإذا ثبت حصول هذه الشفاعة في حق إبراهيم عليه الصلاة والسّلام ثبت حصولها في حق محمد صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنه مأمور بالإقتداء به كما قال تعالى : (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) [النساء ، ١٢٥] وقيل : إنّ هذا الدعاء كان قبل أن يعلم إبراهيم أنّ الله لا يغفر الشرك ، وقيل : إنك قادر أن تغفر له وترحمه بأن تنقله عن الكفر إلى الإسلام ، وقيل : المراد من هذه المغفرة أن لا يعاجلهم بالعقاب ، فلا يمهلهم حتى يتوبوا ، قال الرازي : واعلم أنّ هذه الأوجه ضعيفة ، وارتضى ما تقرّر أولا.
تنبيه : حكى الله سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليهالسلام في هذا الموضع أنه طلب من الله تعالى سبعة أمور : الأوّل : طلب من الله تعالى نعمة الأمان ، وهو (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) المطلوب الثاني : أن يرزقه الله تعالى التوحيد ويصونه عن الشرك وهو قوله : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ.)
المطلوب الثالث قوله : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي ،) أي : بعض ذريتي أو ذرّية من ذريتي ، فحذف المفعول على هذا القول ، وهم إسماعيل ومن ولد منه فإن إسكانه متضمن لإسكانهم (بِوادٍ) هو وادي مكة المشرفة لكونه في فضاء منخفض بين جبال تجري فيه السيول (غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ،) أي : لا يكون فيه من الزرع قط ، فإنه حجري لا ينبت كقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) [الزمر ، ٢٨] بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ،) أي : الذي حرمت التعرض له ، والتهاون به ، وجعلت ما حوله حرما لمكانه ؛ أو لأنه لم يزل ممنعا عزيزا يهابه كل جبار كالشيء المحرّم الذي حقه أن يجتنب ؛ أو لأنه محترم عظيم الحرمة لا يحل انتهاكه ؛ أو لأنه حرّم على الطوفان ، أي : منع منه كما سمي عتيقا ؛ لأنه أعتق منه فلم يستول عليه ، أو لأنه أمر الصائرين إليه أن يحرموا على أنفسهم أشياء كانت تحل لهم من قبل ، أو لأنه حرم موضع البيت حين خلق السموات والأرض ، وحفه بسبعة أملاك ، وهو مثل البيت المعمور الذي بناه آدم فرفع إلى السماء السادسة ، وروي أن هاجر كانت أمة لسارة فوهبتها لإبراهيم عليهالسلام فولدت منه إسماعيل ، فقالت سارة : كنت أريد أن يهب الله لي ولدا من خليله فمنعنيه ورزقه خادمتي ، وغارت عليهما ، وقالت لإبراهيم : بعدهما مني وناشدته بالله أن يخرجهما من عندها ، فنقلهما إلى مكة وإسماعيل رضيع حتى وضعهما عند البيت عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد ، وليس بمكة يومئذ أحد ، وليس بها ماء فوضعهما هناك ، ووضع عندهما جرابا فيه تمر وسقاء فيه ماء ، ثم قفل إبراهيم منطلقا ، فتبعته أم إسماعيل وقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس