حرما لا يسفك فيه دم إنسان ، ولا يظلم فيه أحد ولا يصاد صيده ولا يختلى خلاه. فإن قيل : ، أي : فرق بين قوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) [البقرة ، ١٢٦] وبين قوله : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً؟) بأنّ المسؤول في الأوّل أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها ولا يخافون ، وفي الثاني : أن يزيل عنها الصفة التي كانت حاصلة لها ، وهي الخوف ويجعل لها تلك الصفة ، وهي الأمن كأنه قال : هو بلد مخوف فاجعله آمنا.
فإن قيل : كيف أجاب الله تعالى دعاءه مع أنّ جماعة من الجبابرة قد أغاروا عليها وأخافوا أهلها؟ أجيب : بجوابين : أحدهما : أنّ إبراهيم عليهالسلام لما فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ، والمراد منه جعل مكة آمنة من الخراب ، وهذا موجود بحمد الله تعالى فلم يقدر أحد على إخراب مكة. فإن قيل : يرد على هذا ما ورد عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» (١)؟ أجيب : بأنّ قوله تعالى : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ) يعني إلى قرب يوم القيامة وخراب الدنيا فهو عام مخصوص بقصة ذي السويقتين ، فلا تعارض بين النصين ، والجواب الثاني : أنّ المراد جعل أهلها آمنين كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢] ، أي : أهلها وهذا الجواب عليه أكثر المفسرين ، وعلى هذا فقد اختص أهل مكة بزيادة الأمن في بلدهم كما أخبر الله تعالى بقوله : (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت ، ٦٧] وأهل مكة آمنون من ذلك حتى أنّ من التجأ إلى مكة أمن على نفسه وماله ، وحتى أنّ الوحوش إذا كانت خارجة الحرم استوحشت ، وإذا كانت داخلة الحرم استأنست ؛ لعلمها أنه لا يهجيها أحد في الحرم ، وهذا القدر من الأمن حاصل بحمد الله بمكة وحرمها (وَاجْنُبْنِي ،) أي : بعدني (وَبَنِيَّ أَنْ ،) أي : عن أن (نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ،) أي : اجعلنا في جانب غير جانب عبادتها.
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام معصومون فما الفائدة في قوله : (وَاجْنُبْنِي) عن عبادة الأصنام؟ أجيب : بأنه عليه الصلاة والسّلام إنما سأل ذلك هضما لنفسه ، وإظهارا للحاجة والفاقة إلى فضل الله في كل المطالب ، وفي ذلك دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق الله تعالى وحفظه إياهم. فإن قيل : كان كفار قريش من أبنائه مع أنهم كانوا يعبدون الأصنام فكيف أجيب دعاؤه؟ أجيب : بأنّ المراد من كان موجودا حال الدعاء ، ولا شبهة أنّ دعوته كانت مجابة فيهم ، أو أنّ هذا الدعاء مخصوص بالمؤمنين من أولاده ، والدليل عليه أنه قال عليهالسلام في آخر الآية : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) وذلك يفيد أن من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) [هود ، ٤٦] ، والصنم المنحوت على خلقة البشر وما كان منحوتا على غير خلقة البشر فهو وثن ، قاله الطبري. ولذا لما سئل ابن عيينة كيف عبدت العرب الأصنام؟ فقال : ما عبد أحد من بني إسماعيل صنما ، واحتج بقوله تعالى : (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) وإنما كانت أنصاب الحجارة لكل قوم قالوا : البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلة البيت فكانوا يدورون بذلك الحجر ، أي : يطوفون به أسابيع تشبيها بالكعبة ، ويسمونه الدوّار بضم الدال مشدّدة ، وقد تفتح ، قال الجوهري : دوّار بالضم صنم وقد تفتح فاستحب أن يقال طاف بالبيت ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في الحج حديث ١٥٩١ ، ومسلم في الفتن حديث ٢٩٠٩ ، والنسائي في المناسك حديث ٢٩٠٤ ، وأبو داود في الملاحم حديث ٤٣٠٩.