عنهم هذه الأنواع الثلاثة من الأعمال القبيحة قال لنبيه صلىاللهعليهوسلم : (قُلْ ،) أي : تهديدا لهم ، فإنهم لا يشكون في قولك وإن عاندوا (تَمَتَّعُوا) بدنياكم قليلا (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ ،) أي : مرجعكم (إِلَى النَّارِ) في الآخرة.
ولما أمر الله تعالى الكافرين على سبيل التهديد والوعيد بالتمتع بنعيم الدنيا ، أمر المؤمنين بترك التمتع بالدنيا والمبالغة في المجاهدة بالنفس والمال بقوله تعالى : (قُلْ لِعِبادِيَ) فوصفهم بأشرف أوصافهم ، وأضافهم إلى ضميره الشريف تحبيبا لهم فيه ، ثم أتبع هذا الوصف ما يناسبه من إذعانهم لسيدهم بقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا ،) أي : أوجدوا هذا الوصف (يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ) فيه وجهان : أحدهما : يصح أن يكون جوابا بالأمر محذوف تقديره قل لعبادي الذين آمنوا : أقيموا الصلاة وأنفقوا يقيموا الصلاة وينفقوا. والثاني : يصح أن يكون هو أمرا مقولا محذوفا منه اللام ، أي : ليقيموا ليصح تعلق القول بهما ، وإنما حسن ذلك هاهنا ولم يحسن في قوله (١) :
محمد تفد نفسك كل نفس |
|
إذا ما خفت من شيء تبالا |
أي تبالي به ، أي : تكثرت به لدلالة قل عليه : (سِرًّا وَعَلانِيَةً ،) أي : ينفقون أموالهم في حال السر والعلانية ، وقيل : المراد بالسر صدقة التطوع ، وبالعلانية إخراج الزكاة الواجبة.
تنبيه : في انتصاب سرّا وعلانية وجوه : أحدها : أن يكون على الحال ، أي : ذوي سر وعلانية بمعنى مسرّين ومعلنين. والثاني : على الظرف ، أي : وقت سر وعلانية. وثالثها : على المصدر ، أي : إنفاق سر وإنفاق علانية. ولما أمرهم الله تعالى بإقامة الصلاة والإنفاق أشار إلى عدم التهاون بذلك بقوله عزوجل : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ،) أي : عظيم جدّا ليس كشيء من الأيام التي تعرفونها (لا بَيْعٌ فِيهِ ،) أي : فيشتري المقصر ما يتدارك به تقصيره ، أو يفدي به نفسه (وَلا خِلالٌ ،) أي : مخالة ، أي : صداقة تنفع في ذلك اليوم.
قال مقاتل : إنما هو يوم لا بيع فيه ولا شراء ولا مخالة ولا قرابة ، فكأنه تعالى يقول : أنفقوا أموالكم في الدنيا حتى تجدوا ثواب ذلك الإنفاق في مثل هذا اليوم الذي لا يحصل فيه مبايعة ولا مخالة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة البقرة : (لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) [البقرة ، ٢٥٤]. فإن قيل : كيف نفى الله تعالى المخالة في هاتين الآيتين مع أنه تعالى أثبتها في قوله تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ، ٦٧]؟ أجيب : بأن الآية الدالة على نفي المخالفة محمولة على نفي المخالة بسبب ميل الطبع ورغبة النفس ، والآية الدالة على حصول المخالة محمولة على حصول المخالة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبة الله تعالى.
ولما طال الكلام في وصف أحوال السعداء وأحوال الأشقياء ، وكانت العمدة العظمى والمنزلة الكبرى في حصول السعادات معرفة الله تعالى بذاته وصفاته ، وفي حصول الشقاوة فقدان ذلك ختم تعالى أحوال الفريقين بقوله تعالى : (اللهُ ،) أي : الملك الأعلى المحيط بكل شيء ، ثم
__________________
(١) البيت من الوافر ، وهو لأبي طالب في شرح شذور الذهب ص ٢٧٥ ، وله أو للأعشى في خزانة الأدب ٩ / ١١ ، وللأعشى أو لحسان أو لمجهول في الدر ٥ / ٦١ ، وبلا نسبة في أسرار العربية ص ٣١٩ ، ٣٢١ ، والإنصاف ٢ / ٥٣٠ ، واللامات ص ٩٦.