وقوله تعالى : (وَإِذْ ،) أي : واذكروا إذ (تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) فهو أيضا من كلام موسى عليهالسلام ، وتأذن بمعنى أذن كتوعد وأوعد غير أنه أبلغ لما في التفعل من معنى التكلف والمبالغة (لَئِنْ شَكَرْتُمْ.)
يا بني اسرائيل نعمتي بالتوحيد والطاعة (لَأَزِيدَنَّكُمْ) نعمة إلى نعمة ، ولأضاعفن لكم ما آتيتكم ، فإنّ الشكر قيد الموجود وصيد المفقود ، والشكر عبارة عن الاعتراف بنعمة المنعم مع تعظيمه وتوطين النفس على هذه الطريقة ، ثم قد يرتقي العبد عن تلك الحالة إلى أن يصير حبه للمنعم شاغلا له عن الالتفات إلى النعمة ، ولا شك أن منبع السعادات وعنوان كل الخيرات محبة الله تعالى ومعرفته ، وأما الزيادة في النعمة فهي على قسمين : روحانية وجسمانية ، فالأولى هي أن الشاكر يكون أبدا في مطالعة أقسام نعمة الله تعالى ، وأنواع فضله وكرمه ، وأما الثانية : فلأن الاستقراء دل على أنّ كل من كان اشتغاله بشكر نعم الله أكثر كان وصول نعم الله إليه أكثر نسأل الله تعالى القيام بواجب شكر النعمة حتى يزيدنا من فضله وكرمه وإحسانه ، ويفعل ذلك بأهلينا وأحبابنا.
ثم إنه تعالى لما ذكر ما يستحقه الشاكر ذكر ما يستحقه مقابله بقوله تعالى : (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ ،) أي : جحدتم النعمة بالكفر والمعصية لأعذبنكم دل عليه (إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ،) أي : لمن كفر نعمتي ولا يشكرها ، ومن عادة أكرم الأكرمين أن يصرح بالوعد ويعرض بالوعيد ، ولما بيّن موسى أن الاشتغال بالشكر يوجب تزايد الخيرات في الدنيا والآخرة ، والاشتغال بكفران النعم يوجب العذاب الشديد وحصول الآفات في الدنيا والآخرة بين بعده أن منافع الشكر ومضار الكفران لا تعود إلا إلى صاحب الشكر ، وصاحب الكفران ، وأما المعبود والمشكور فإنه متعال عن أن ينتفع بالشكر أو يستضر بالكفران فلا جرم قال تعالى : (وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ) يا بني اسرائيل (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) وأكده بقوله تعالى : (جَمِيعاً ،) أي : من الثقلين فإنما ضرر ذلك يعود على أنفسكم وحرمتموها الخير كله (فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌ) عن جميع خلقه فلا يزداد بشكر الشاكرين ولا ينقص بكفر الكافرين (حَمِيدٌ ،) أي : محمود في جميع أفعاله ؛ لأنه فيها متفضل عادل وقوله تعالى :
(أَلَمْ يَأْتِكُمْ) يا بني اسرائيل (نَبَؤُا ،) أي : خبر (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ) وكانوا ملء الأرض (وَ) نبأ (عادٍ) قوم هود وكانوا أشد الناس أبدانا (وَ) نبأ (ثَمُودَ) قوم صالح وكانوا أقوى الناس على نحت الصخور وبناء القصور يحتمل أن يكون من كلام موسى ، أو كلام مبتدأ من الله تعالى لقوم محمد صلىاللهعليهوسلم وهو استفهام تقرير وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ،) أي : بعد هؤلاء الأمم الثلاثة (لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللهُ) فيه قولان ؛ الأول أن يكون المراد لا يعلم كنه مقاديرهم إلا الله تعالى ؛ لأن المذكور في القرآن جملة ، فأما ذكر العدد والعمر والكيفية والكمية فغير حاصل ، والقول الثاني : إنّ المراد ذكر أقوام ما بلغنا أخبارهم أصلا كذبوا رسلا لم نعرفهم أصلا ولا يعلمهم إلا الله ، ولذلك كان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : كذب النسابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب إلى آدم عليهالسلام ، وقد نفى الله علمها عن العباد. وعن ابن عباس أنه قال بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً) [الفرقان : ٣٨ ، ٣٩] وقوله تعالى : (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا