كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))
(الر) تقدّم الكلام عليها أول يونس وهود. وقوله تعالى : (كِتابٌ) خبر لمبتدأ محذوف ، أي : هذا القرآن كتاب ، أو الر ، إن قلنا : إنها مبتدأ والجملة بعده صفة ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء وخبره الجملة بعده وجاز الابتداء بالنكرة ؛ لأنها موصوفة تقديرا ، تقديره كتاب ، أي : كتاب يعني عظيما من بين الكتب السماوية (أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) يا أشرف الخلق عند الله تعالى (لِتُخْرِجَ النَّاسَ ،) أي : عامة قومك وغيرهم بدعائك إياهم (مِنَ الظُّلُماتِ ،) أي : الكفر وأنواع الضلالة (إِلَى النُّورِ ،) أي : الإيمان والهدى. قال الرازي : والآية دالة على أنّ طرق الكفر والبدع كثيرة وأنّ طريق الحق ليس إلا واحدا ؛ لأنه تعالى قال : (لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ) وهي صيغة جمع ، وعبر عن الإيمان والهدى بالنور ، وهو لفظ مفرد وذلك يدل على أنّ طرق الجهل والكفر كثيرة وأنّ طريق العلم والإيمان ليس إلا واحدا.
تنبيه : القائلون بأن معرفة الله تعالى لا يمكن تحصيلها إلا من تعليم الرسول ، احتجوا بهذه الآية ، وذلك يدلّ على أنّ معرفة الله تعالى لا تحصل إلا من طريق التعليم. وأجيب : بأنّ الرسول صلىاللهعليهوسلم كالمنبه وأمّا المعرفة فهي إنما تحصل من الدليل وقوله تعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) متعلق بالإخراج ، أي : بتوفيقه وتسهيله ، ويبدل من إلى النور (إِلى صِراطِ ،) أي : طريق (الْعَزِيزِ ،) أي : الغالب (الْحَمِيدِ ،) أي : المحمود على كل حال المستحق لجميع المحامد.
وفي قوله : (اللهِ) قراءتان ، فقرأ نافع وابن عامر برفع الهاء وصلا وابتداء على أنه مبتدأ خبره (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ،) أي : ملكا وخلقا ، وقرأ الباقون بالجرّ على أنه بدل أو عطف بيان وما بعده صفة.
تنبيه : ذهب جماعة من المحققين إلى أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم لذات الله سبحانه وتعالى ، وذهب قوم آخرون إلى أنه لفظ مشتق. قال الرازي : والحق عندنا هو الأوّل ؛ لأنّ الأمّة لما اجتمعت على أنّ قولنا : لا إله إلا الله يوجب التوحيد المحض علمنا أنّ قولنا : الله جار مجرى الاسم العلم. وقد قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [مريم ، ٦٥] ، أي : هل تعلم من اسمه الله غير الله ، وذلك يدل على قولنا : الله اسم لذاته المخصوصة ، ولذا استشكل قراءة الجرّ إذ الترتيب الحسن أن يذكر الاسم ، ثم يذكر عقبه الصفات كقوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ) [الحشر ، ٢٤] وأمّا الخالق الله فلا يحسن.
وأجيب عن ذلك بأنه لا يبعد أن تذكر الصفة أوّلا ، ثم يذكر الاسم ثم تذكر الصفة مرّة أخرى كما يقال : مررت بالإمام الأجل محمد الفقيه ، وهو بعينه نظير قوله تعالى : (صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) والآية تفيد حصر ما في السموات وما في الأرض له لا لغيره ، وذلك ليدلّ على أنه لا مالك إلا الله ، ولا حاكم إلا الله ، وأنه تعالى خالق لأعمال العباد ؛ لأنها حاصلة في السموات والأرض ، فوجب القول بأنّ أفعال العباد له بمعنى كونها مملوكة له ، والملك عبارة عن القدرة فوجب كونها مقدورة لله ، وإذا ثبت أنها مقدورة لله وجب وقوعها بقدرة الله ، وإلا لكان العبد قد منع الله تعالى من إيقاع مقدوره ، وذلك محال ، ثم إنه تعالى لما ذكر ذلك عطف على الكفار بالوعيد فقال تعالى : (وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ ،) أي : الذين تركوا عبادة من يستحق العبادة الذي له ما في السموات وما في الأرض ، وعبدوا من لا يملك شيئا البتة ، بل هو