الناس بخير ما بقي الأوّل حتى يتعلم الآخر ، وإذا هلك الأوّل قبل أن يتعلم الآخر هلك الناس. وقيل لسعيد بن جبير : ما علامة هلاك الناس؟ قال : هلاك علمائهم ، ثم أثبت تعالى لنفسه أمرا كليا فقال : (وَاللهُ ،) أي : الملك الأعلى. (يَحْكُمُ) في خلقه بما يريد ؛ لأنه (لا مُعَقِّبَ ،) أي : راد ؛ لأنّ التعقيب ردّ الشيء بعد فصله (لِحُكْمِهِ) وقد حكم للإسلام بالإقبال وعلى الكفر بالإدبار ، وذلك كائن لا يمكن تغييره.
تنبيه : محل جملة لا معقب لحكمه النصب على الحال كأنه قيل : والله يحكم نافذا حكمه كما تقول : جاءني زيد لا عمامة على رأسه ولا قلنسوة تريد حاسرا (وَهُوَ) عزوجل مع تمام القدرة (سَرِيعُ الْحِسابِ) فيحاسبهم عما قليل في الآخرة بعد ما عذبهم بالقتل والإجلاء في الدنيا. وقال ابن عباس : يريد سريع الانتقام يعني : حسابه للمجازاة بالخير والشرّ ، فمجازاة الكفار بالانتقام منهم ، ومجازاة المؤمنين بإيصال الثواب إليهم ، وقد تقدّم الكلام في معنى سريع الحساب قبل هذا.
وقوله تعالى : (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ،) أي : من كفار الأمم الماضية قيل : مكروا بأنبيائهم مثل نمروذ مكر بإبراهيم ، وفرعون مكر بموسى واليهود مكروا بعيسى فيه تسلية للنبيّ صلىاللهعليهوسلم. وقوله تعالى : (فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً ،) أي : أن مكر جميع الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته ؛ لأنه تعالى هو الخالق لجميع أعمال العباد ، فالمكر لا يضرّ إلا بإذنه ولا يؤثر إلا بتقديره ، فيه أمان له صلىاللهعليهوسلم من مكرهم ، فكأنه قيل : إذا كان حدوث المكر من الله تعالى وتأثيره في الممكور به من الله وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله تعالى لا من أحد من المخلوقين ، وذهب بعض المفسرين إلى أنّ المعنى : فلله جزاء المكر ، وذلك أنهم لما مكروا بالمؤمنين بيّن الله تعالى أنه يجازيهم على مكرهم. قال الواحدي : والأوّل أظهر القولين بدليل قوله تعالى : (يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ،) أي : أنّ أكساب العباد معلومة لله تعالى ، وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وإذا كان كذلك ، فلا قدرة لعبد على الفعل والترك ، فكان الكل من الله فيجازيهم على أعمالهم ، وفي ذلك وعيد وتهديد للكفار الماكرين.
ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد بقوله تعالى : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ،) أي : العاقبة المحمودة في الدار الآخرة ألهم أم للنبيّ صلىاللهعليهوسلم وأصحابه؟ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالألف بعد الكاف على الإفراد والكاف مفتوحة والفاء مكسورة مخففة ، والباقون بالألف بعد الفاء على الجمع ، فالكاف مضمومة والفاء مفتوحة مشدّدة ، فمن قرأ بالإفراد أراد الجنس كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر ، ٢] ليوافق قراءة الجمع. وقال عطاء : المستهزؤون وهم خمسة والمقتسمون وهم ثمانية وعشرون. وقال ابن عباس : يريد أبا جهل. قال الرازي : والأوّل هو الصواب ، أي : ليوافق قراءة الجمع كما مرّ.
ولما تقدّم قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) [الرعد ، ٧] عطف عليه بعد شرح ما استتبعه قوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً ،) أي : لكونك لا تأتي بمقترحاتهم مع أنه صلىاللهعليهوسلم لم يقل يوما : إنه قادر عليها ، فكأنه قيل : فما أقول لهم؟ فقال تعالى : (قُلْ) لهم (كَفى بِاللهِ) الذي له الإحاطة الكاملة (شَهِيداً ،) أي : بليغ العلم في شهادته بالإطلاع على ما ظهر وما بطن (بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) يشهد بتأييد رسالتي ، وتصحيح مقالتي بما أظهر لي من الآية ،