__________________
ـ صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن رب العالمين «إن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده. وإن من عبادي من لا يصلح إيمانه إلا الغنى. ولو أفقرته لأفسده» وأما اختلافها بحسب الأحوال والأزمان فإنا نرى الشدة والغلظة نافعة في زمان دون زمان لا ينفع فيه إلا المدارة والمساهلة. ومثل ذلك المريض يكون تناول الدواء مفيدا له حين مرضه ، فيأمره الطبيب بتناوله ، ويكون مضرّا له بعد سلامته فينهاه الطبيب عنه حينئذ ، أو كالغذاء الجيد لا تتحمله معدة المريض الضعيف فينهى عنه ، فإذا شفي من مرضه وسلمت معدته واحتاج إلى ما يعيد قوته حتم عليه الطبيب تناول ما كان يمنعه عنه ، واعتبر ذلك في تربية الطفل يعطى من الغذاء الخفيف ما يناسبه حتى إذا شب زيد له من متين الغذاء بمقداره ، ومنع من رضاع أمه ، إذ كان ذلك لا يناسبه بعد كبره.
شبه المنكرين للجواز عقلا :
الشبهة الأولى :
إن كان النسخ لحكمة ظهرت للناسخ الآن ولم تكن ظاهرة من قبل ، فالنسخ بداء وجهل بعواقب الأمور ، وإن لم يكن لحكمة ظهرت فعبث من غير فائدة ، وكلاهما محال على الله جل شأنه.
الرد على هذه الشبهة :
أسلفنا أن المصلحة قد تتجدد بتجدد الأحوال ، والحاكم كان يعلم من الأزل أن المصلحة تتجدد ، فإن الكلام فيما ليس بحسن ولا قبيح لذاته وأما ما هو حسن لذاته أو قبيح كذلك فلا يقبل النسخ عندنا أيضا فلا بداء. فإن أريد بالظهور الظهور للحاكم بعد الجهل فنختار أنه لم يظهر الآن بل كان ظاهرا له من الأزل ، ولا يلزم العبث فالملازمة الثانية ممنوعة. وإن أريد به الوجود في الفعل واتصافه به فلزوم البداء ممنوع ، كيف وأنه كان يعلم من الأزل أنه تجدد مصلحة فيه.
الشبهة الثانية :
أن الخطاب المنسوخ حكمه إما أن يكون مؤقتا أو هو دال على التأبيد ، فإن كان الأول فهو غير قابل للنسخ لانتهائه بانتهاء ذلك الوقت ؛ كمن يقول : (صم إلى الغد) ثم يقول : (في الغد لا تصم) ؛ إذ الثاني ليس رفعا للأول لانتهاء الأول بانتهاء وقته ، وإن كان الثاني فهو محال من ثلاثة أوجه الأول : التناقض فإن التأبيد يقتضى بقاء الحكم إلى الأبد والنسخ ينافيه. الثاني : أن يلزم منه ألا يبقى لنا طريق إلى معرفة التأبيد بتقدير إرادة التأبيد ، وذلك مما يوجب إعجاز الرب تعالى عن إعلامنا بالتأبيد وهو محال. الثالث : أنه يلزمكم على هذا جواز نسخ شريعتكم ولم تقولوا به.
الرد على هذه الشبهة :
يرد على هذه الشبهة بأن حصر الحكم بين كونه مؤقتا أو مؤبدا غير مسلم ؛ بل الحكم الأول مطلق عن الغاية وقيد التأبيد ، فلا يمتنع جواز نسخه إذ لا دلالة لفظية على امتناعه ؛ فإن التوقيت والتأبيد والبقاء والاستمرار غير داخل في المطلق. وبقاء التعلق والوجوب وعدم بقائهما غير مستفاد من الصيغة ، بل إن النسخ مشروع فيما هذا شأنه ولو سلم الحصر فنختار أنه مقيد بالتأبيد ، ولا يمتنع النسخ أيضا إن جعل التأبيد قيدا للفعل الواجب لا للوجوب ؛ إذ لا تناقض بين دوام الفعل وعدم دوام الحكم المتعلق به ؛ كصوم رمضان أبدا فإن التأبيد قيد للصوم الذي هو الفعل الواجب ، لا لإيجابه على المكلف ؛ لأن الفعل إنما يعمل بمادته لا بهيئته ، ودلالة الأمر على الوجوب بالهيئة لا بالمادة ، فيكون الرمضانات كلها متعلق الوجوب من غير تقييد للوجوب بالاستمرار إلى الأبد ، فلم يكن رفع الوجوب وهو عدم استمراره مناقضا للوجوب في الجملة ، ولو سلم أنه قيد للوجوب وهو الظاهر كما في النهي فإنه يفيد التأبيد فلا يمتنع النسخ ؛ ـ