ثم المسألة فيما عملوا بالمنسوخ قبل العلم بالنسخ ما حال العمل الذي عملوا به يجرحون ويأثمون في عملهم بذلك في حال نسخه ، أو يثابون ويؤجرون على ذلك؟
فإن كان الفعل فعل طاعة وقربة ، فإنه يثاب في قصده وفعله (١) ولا يجرح فيه.
وإن كان فعله (٢) ليس بفعل قربة وطاعة ، ولكن فعل حل وحرمة ـ فإنه في فعله قبل بلوغ العلم بنسخه لا يجرح في فعله ؛ نحو ما روي أنهم كانوا يشربون الخمر ثم أتاهم آت فقال : ألا إن الخمر قد حرمت ، فصبّوها وكفوا عنها ، فهم في شربهم بعد التحريم قبل بلوغ الخبر إليهم لا يجرحون.
وأما الفعل الذي هو فعل قربة وطاعة : فإن لهم القربة في فعلهم وهو الصلاة ؛ ونحوه ما روي أن نفرا كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، فمرّ عليهم مار فقال : ألا إن القبلة قد حولت ـ وهم في الركوع ـ إلى الكعبة ، فتحولوا نحوها ، فأخبروا عن ذلك رسول الله فلم يأمرهم بالإعادة ؛ لأن الفعل فعل قربة وطاعة ، فالطاعة والقربة موجودة في فعلهم ؛ لأن الأفعال التي فرضت لم تفرض لنفس الأفعال إنما فرضت للطاعة والقربة لله فيها ، فإنه يؤجر على ذلك ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
بما فيه مصالح الخلق وما ليس فيه ؛ كأن هذا ـ والله أعلم ـ خرج لإنكار من أنكر النسخ في الشرائع (٣) ؛ يقول : إن الله يعلم بما فيه مصالح الخلق وأنتم لا تعلمون ، وفي الناسخ مصالح لهم وأنتم لا تعلمون ، ويؤكد ذلك قوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ).
__________________
(١) في أ : وقوله.
(٢) في أ : ولكن وإن كان الفعل.
(٣) أجمع أهل الشرائع طرا من المسلمين والنصارى واليهود على جوازه عقلا ، وخالف في ذلك الشمعونية من اليهود متمسكين بشبه واهية.
الرد عليها بعد ذكرها إن شاء الله تعالى :
دليل جوازه عقلا :
احتج الجمهور بدليل عقلي حاصله : أن المخالف لا يخلو حاله من أحد أمرين : إما أن يكون ممن يوافق على أن الله تعالى هو الفاعل المختار له أن يفعل ما يشاء كما يشاء من غير نظر إلى حكمة وغرض. وإما أن يكون ممن يعتبر المصلحة في أفعاله تعالى. فإن كان الأول فليس في العقل ما يمنع من أن يأمر الله بشيء في وقت وينهى عنه في وقت آخر ؛ كأمره بالصوم في اليوم الأخير من رمضان ، ونهيه عنه في اليوم الأول من شوال. وإن كان الثاني فلا يمتنع أن يعلم الله أن في الفعل مصلحة في وقت فيأمر به ، وأن في الفعل مضرة في وقت آخر فينهى عنه ؛ فإن المصلحة مما تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال ، أما اختلافها بالأشخاص فإنا نرى الغنى مصلحة لبعض الناس ، والفقر مفسدة له ، بينما نرى الفقر مصلحة للبعض الآخر ، والغنى مفسدة له ، يدلنا على ذلك قول الرسول الأمين ـ