وقال بعضهم : الآية في نسخ الأحكام والشرائع التي تحتمل النسخ (١).
فإن كانت في الاستغفار للمشركين ، فإنه ليس هنالك نسخ ؛ لأنه لم يسبق لهم الأمر بالاستغفار ولا الإباحة لهم في ذلك ، فكأنه (٢) قال : ما كان الله ليجعل قوما ضلالا بالاستغفار بعد أن جعلهم مهتدين حتى يعلموا بالنهي عن ذلك ، والله أعلم.
وهو يحتمل ما ذكرنا من استغفارهم للمنافقين قبل أن يتبين لهم ؛ يقول : لا يجعلهم ضلالا بذلك.
(حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) ، أي : حتى يعلموا بالذي يلزمهم الانتهاء عنه ، وهو النسخ ؛ هذا في الأحكام التي تحتمل النسخ.
وأما الأحكام التي لا تحتمل النسخ فلا.
وأصله : أن كل ما كان في العقل امتناع نسخه فإنه لا يرد فيه النسخ ، وكل ما كان في العقل لا امتناع على نسخه فإنه يجوز أن يرد فيه النسخ.
__________________
ـ وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٥١٠) وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(١) اختلف المتأخرون في موضوع النسخ ؛ فمنهم من ذهب إلى أن النسخ كما يكون في الأوامر والنواهي يكون في الأخبار. وهذا القول شبيه لما حكي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم والسدي حيث قالا : (قد يدخل النسخ على الأمر والنهي وعلى جميع الأخبار) ولم يفصلا وتابعهما على هذا القول جماعة ، ولا حجة لهم في ذلك من الدراية وإنما يعتمدون على الرواية .. قال أبو جعفر : «وهذا القول عظيم جدّا يئول إلى الكفر» ؛ لأن قائلا لو قال : (قام فلان) ثم قال : (لم يقم) ثم قال : (نسخته) لكان كاذبا». وبعضهم ذهب إلى أن أمر الناسخ والمنسوخ موكول إلى الإمام فله أن ينسخ ما شاء ، وهذا القول أعظم ؛ لأن النسخ لم يكن إلى النبي صلىاللهعليهوسلم إلا بالوحي من الله تعالى ، إما بقرآن مثله على قول قوم ، وإما بوحي من غير القرآن ، فلما ارتفع هذا بموت النبي صلىاللهعليهوسلم ارتفع النسخ. ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي. وأما الأخبار فيفضل فيها بين ما فيه حكم فيجوز النسخ فيه ، وبين ما لا حكم فيه فلا يجوز.
ومنهم من ذهب إلى أن النسخ يكون في الأوامر والنواهي خاصة.
وهذا المذهب حكاه هبة الله بن سلامة عن مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة بن عمار.
وهناك مذهب خامس عليه أئمة العلماء : وهو أن النسخ إنما يكون في المتعبدات ؛ لأن لله عزوجل أن يتعبد خلقه بما شاء إلى أي وقت شاء ثم يتعبدهم بغير ذلك ؛ فيكون النسخ في الأوامر والنواهي وما كان في معناهما مثل قوله تعالى : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ)[النور : ٣] ، وقوله تعالى في سورة يوسف عليهالسلام : (قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً)[٤٧] فالأولى مثال للخبر الذي بمعنى النهي ؛ لأن المعنى : لا تنكحوا زانية ولا مشركة.
والثانية مثال للخبر الذي بمعنى الأمر ؛ لأن المعنى (ازرعوا) وهذا المذهب عزي إلى الضحاك بن مزاحم. ينظر البحر المحيط (٤ / ٦٣) ، شرح الكوكب المنير ص (٤٦٢) الآيات البينات (٣ / ١٢٩).
(٢) في أ : فإنه.