فأنزل الله تعالى : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) يعني : الذي جاء بصاع.
قال القتبي : الذين يلمزون المطوعين ، أي : يصيبون المتطوعين بالصدقة ، (وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ) أي : طاقتهم ، والجهد : الطاقة (١) ، قال : والجهد : المشقة.
وقال أبو عوسجة : الجهد : إنفاق الرجل من الشيء القليل ، يقال : جهد الرجل ، إذا كان من الضعف أو من الفقر.
ويقال : جهد في العمل ، يجهد جهدا ؛ إذا بالغ في العمل (٢).
قال أبو عبيد : الجهد مثل الوسع ، والجهد : الطاقة ، وكذلك قال أبو معاذ.
وفي الآية معنيان :
أحدهما : دلالة إثبات رسالة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لأنه معلوم أن ما كان منهم من اللمز لم يكن ظاهرا ، ولكن كان سرّا ، ثم أخبرهم رسوله بذلك ، دل أنه إنما عرف ذلك بالله.
والثاني : أن الأمور التي فيما بين الخلق إنما ينظر إلى ظواهرها ، وإن كان في الباطن على خلاف الظواهر ، حيث عوتبوا هم بما طعنوا فيهم بالرياء والسمعة ؛ ليعلم أن الأمور التي فيما بين الخلق تحمل على ظواهرها ، ولا ينظر فيها إلى غير ظاهرها ، والحقيقة هو ما بطن وأسروا به يخلص العمل لله ، والسر : هو ما يسر المرء في نفسه ، والنجوى : هو اجتماع جماعة على نجوة من الأرض ، أي : المرتفع من المكان.
وقوله : (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ).
قال بعضهم : إن من اعتذر إلى آخر فيقبل عنه ، على علم من المعتذر إليه أنه لا عذر له فيما يعتذر إليه ، وأنه كاذب في ذلك ـ فقبول المعتذر إليه ما يعتذر من المعتذر : سخرية من المعتذر إليه إلى المعتذر.
وقال بعضهم : قوله : (سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ) أي : يجزيهم جزاء السخرية (٣) ؛ فسمى جزاءه باسم السخرية ، وإن لم يكن الجزاء سخرية ، كما سمّي جزاء السبة : سبة ، وإن لم تكن الثانية سبة ، وكذلك سمي جزاء الاعتداء اعتداء وإن لم يكن الثاني اعتداء ، فعلى ذلك سمي جزاء السخرية سخرية ، وإن لم يكن سخرية.
__________________
(١) ذكره البغوي في تفسيره ومعه تفسير الخازن (٣ / ١٦٤).
(٢) أخرجه الطبري (١٧٠٣٥) ، (١٧٠٣٦) ، (١٧٠٣٧) عن الشعبي وعزاه السيوطي في الدر (٣ / ٤٧١) لابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(٣) انظر تفسير الخازن والبغوي (٣ / ١٦٤).