لهم المنافع التي كانوا ينتفعون بها ، وفي الأمر بالقتال خوف الهلاك ، فإذا خافوا الهلاك على أنفسهم امتنعوا عنه ؛ كقوله : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا) الآية الأحزاب : ١٨] ؛ خوفا وإشفاقا على أنفسهم ؛ لما ذكرنا أنهم إنما كانوا يظهرون الإيمان باللسان ؛ ليسلم لهم ما طمعوا من المنافع ؛ كقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الآية [الحج : ١١] ، هذا وصف المنافق.
وأما المؤمن المحق للإيمان ، المخلص للإسلام : فإنه يسلم نفسه لله في جميع أحواله ، وإن كان فيه تلف نفسه ؛ لما لم تكن عبادته لله على حرف ووجه كالمنافق ، ولكن على الوجوه كلها ، والأحوال جميعا ، عبادته تكون لله ، لا يمنعه خوف الهلاك عن القتال ؛ بل نفسه تخضع لذلك وترضى ، ولا كذلك المنافق.
وقد ذكرنا أن حرف الاستفهام من الله يكون على الإيجاب والإلزام.
ثم قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أي : قد حسبتم أن تتركوا على ما أظهرتم من الموافقة والخلاف في السر ، ولا تبتلون وتمتحنون بما يظهر منكم ما أضمرتم ، فلا تحسبوا ذلك.
والثاني : (أَمْ حَسِبْتُمْ) أي : لا تحسبوا أن تتركوا على ذلك ، ولا تمتحنوا بالجهاد والقتال.
أحد التأويلين يخرج على النهي ، والثاني على الإخبار عما حسبوا ، وعما عندهم.
ثم قوله : (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) [آل عمران : ١٤٢].
أي : ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدا ، ويعلم ما قد علم أنه يكون كائنا ، لا على حدوث علمه بذلك ؛ إذ هو موصوف بالعلم بكل ما يكون في وقت ما يكون على ما يكون ؛ فيكون قوله : ليعلم المجاهدين من كذا ، وليعلم الصابرين من كذا ؛ أي : ليعلم من قد علم أنه يجاهد مجاهدا ، وليعلم (١) ما قد علم أنه يكون كائنا ؛ لأنه لا يجوز أن يوصف الله بالعلم بما ليس يكون أنه يعلمه كائنا ، كما لا يجوز أن يوصف أنه يعلم من الجالس القيام في حال جلوسه ، ومن المتحرك السكون في حال حركته ، ومن المتكلم السكوت في حال كلامه ، إنما يوصف بالعلم على الحال الذي عليه الخلق ، لا يوصف بالعلم في حال غير الحال الذي هو عليه ، والله الموفق.
ويحتمل هذا وجها آخر : أن فيما أضاف العلم إلى نفسه كان المراد منه أولياؤه ؛
__________________
(١) في ب : أو يعلم.