الله سبحانه ، فهذا يستلزم الإيمان بما جاء به ، فلما لم يؤمن بذلك من عاصره من الكفار ، قال الله سبحانه ذاكرا لهذا : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) أي وما أكثر الناس المعاصرين لك يا محمد ، أو ما أكثر الناس على العموم ولو حرصت على هدايتهم ، وبالغت في ذلك ، بمؤمنين بالله لتصميمهم على الكفر الذي هو دين آبائهم ، يقال : حرص يحرص مثل ضرب يضرب ، وفي لغة ضعيفة حرص يحرص مثل حمد يحمد ، والحرص : طلب الشيء باجتهاد (١). قال الزجّاج : ومعناه : وما أكثر الناس بمؤمنين ولو حرصت على أن تهديهم ؛ لأنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء. قال ابن الأنباري : إن قريشا واليهود سألت رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن قصة يوسف وإخوته فشرحهما شرحا شافيا ، وهو يؤمل أن يكون ذلك سببا لإسلامهم ، فخالفوا ظنّه ، وحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لذلك ، فعزّاه الله بقوله : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ) الآية (وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) أي على القرآن وما تتلوه عليهم منه ، أو على الإيمان وحرصك على وقوعه منهم أو على ما تحدّثهم به من هذا الحديث من أجر من مال يعطونك إياه ويجعلونه لك كما يفعله أحبارهم (إِنْ هُوَ) أي القرآن أو الحديث الذي حدّثتهم به (إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي ما هو إلا ذكر للعالمين كافة لا يختص بهم وحدهم (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال الخليل وسيبويه : والأكثرون أن كأين أصلها أيّ دخل عليها كاف التشبيه ، لكنه انمحى عن الحرفين المعنى الإفرادي ، وصار المجموع كاسم واحد بمعنى كم الخبرية ، والأكثر إدخال «من» في مميزه ، وهو تمييز عن الكاف لا عن أيّ كما في : مثلك رجلا. وقد مرّ الكلام على هذا مستوفى في آل عمران. والمعنى : كم من آية تدلهم على توحيد الله كائنة في السموات من كونها منصوبة بغير عمد ، مزينة بالكواكب النيرة السيارة والثوابت ، وفي الأرض من جبالها وقفارها وبحارها ونباتها وحيواناتها تدلّهم على توحيد الله سبحانه ، وأنه الخالق لذلك ، الرزاق له المحيي والمميت ، ولكنّ أكثر الناس يمرّون على هذه الآيات غير متأملين لها ، ولا مفكّرين فيها ، ولا ملتفتين إلى ما تدلّ عليه من وجود خالقها ، وأنه المتفرد بالألوهية مع كونهم مشاهدين لها (يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) وإن نظروا إليها بأعيانهم فقد أعرضوا عما هو الثمرة للنظر بالحدقة ، وهي التفكر والاعتبار والاستدلال. وقرأ عكرمة وعمرو بن فائد برفع الأرض على أنه مبتدأ ، وخبره يمرّون عليها. وقرأ السدّي بنصب الأرض بتقدير فعل. وقرأ ابن مسعود «يمشون عليها» (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ) أي وما يصدّق ويقرّ أكثر الناس بالله من كونه الخالق الرزاق المحيي المميت (إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) بالله يعبدون معه غيره كما كانت تفعله الجاهلية ، فإنهم مقرّون بالله سبحانه وبأنه الخالق لهم ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٢) ، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (٣) ، لكنهم كانوا يثبتون له شركاء فيعبدونهم ليقرّبوهم إلى الله ، (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ) (٤) ومثل هؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ، المعتقدون في الأموات بأنهم يقدرون على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه كما يفعله كثير من عبّاد القبور ، ولا ينافي هذا ما قيل من أن الآية نزلت في قوم مخصوصين ، فالاعتبار بما يدلّ عليه اللفظ لا بما يفيده السبب من
__________________
(١). في تفسير القرطبي (٩ / ٢٧١) : باختيار.
(٢). الزخرف : ٨٧.
(٣). لقمان : ٢٥.
(٤). الزمر : ٣.