ولا جرى على لسانه ، فتكون هذه الآية تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ، أي : لا يهولنك ذلك ولا يحزنك ، فقد أصاب مثل هذا من قبلك من المرسلين والأنبياء ، وعلى تقدير أن معنى تمنى حدّث نفسه ، كما حكاه الفرّاء والكسائي ، فإنهما قالا : تمنّى إذا حدّث نفسه ، فالمعنى : أنه إذا حدّث نفسه بشيء تكلم به الشيطان وألقاه في مسامع الناس من دون أن يتكلّم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا جرى على لسانه. قال ابن عطية : لا خلاف أن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة وقعت بها الفتنة. وقد قيل في تأويل الآية : إن المراد بالغرانيق : الملائكة ، ويردّ بقوله : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يبطله ، وشفاعة الملائكة غير باطلة. وقيل : إن ذلك جرى على لسانه صلىاللهعليهوسلم سهوا ونسيانا ، وهما مجوّزان على الأنبياء ، ويردّ بأن السهو والنسيان فيما طريقه البلاغ غير جائز كما هو مقرّر في مواطنه ، ثم لما سلاه الله سبحانه بهذه التسلية ، وأنها قد وقعت لمن قبله من الرسل والأنبياء ، بيّن سبحانه أن يبطل ذلك ، ولا يثبته ، ولا يستمر تغرير الشيطان به ، فقال : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) أي : يبطله ويجعله ذاهبا غير ثابت (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) أي : يثبتها (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي : كثير العلم والحكمة في كلّ أقواله وأفعاله ، وجملة (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) للتعليل ، أي : ذلك الإلقاء الذي يلقيه الشيطان فتنة ، أي : ضلالة (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) أي : شكّ ونفاق (وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) هم المشركون ، فإن قلوبهم لا تلين للحق أبدا ، ولا ترجع إلى الصواب بحال ، ثم سجّل سبحانه على هاتين الطائفتين ، وهما : من في قلبه مرض ، ومن في قلبه قسوة ؛ بأنهم ظالمون ، فقال : (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) أي : عداوة شديدة ، ووصف الشقاق بالبعد مبالغة ، والموصوف به في الحقيقة من قام به. ولمّا بيّن سبحانه أن ذلك الإلقاء كان فتنة في حقّ أهل النفاق والشكّ والشرك ؛ بيّن أنه في حقّ المؤمنين العالمين بالله العارفين به سبب لحصول العلم لهم بأن القرآن حقّ وصدق ، فقال : (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) أي : الحقّ النازل من عنده ، وقيل : إن الضمير في «أنه» راجع إلى تمكين الشيطان من الإلقاء ؛ لأنه مما جرت به عادته مع أنبيائه ، ولكنه يردّ هذا قوله : (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) فإن المراد الإيمان بالقرآن ، أي : يثبتوا على الإيمان به (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) أي : تخشع وتسكن وتنقاد ، فإن الإيمان به وإخبات القلوب له لا يمكن أن يكونا تمكين من الشيطان بل للقرآن (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) في أمور دينهم (إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق صحيح لا عوج به. وقرأ أبو حيوة (وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا) بالتنوين (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ) أي : في شكّ من القرآن ، وقيل : في الدين الذي يدل عليه ذكر الصراط المستقيم ، وقيل : في إلقاء الشيطان ، فيقولون : ما باله ذكر الأصنام بخير ثم رجع عن ذلك؟ وقرأ أبو عبد الرحمن السّلمي (فِي مِرْيَةٍ) بضم الميم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) أي : القيامة (بَغْتَةً) أي : فجأة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) وهو يوم القيامة لأنه لا يوم بعده ، فكان بهذا الاعتبار عقيما ، والعقيم في اللغة : من لا يكون له ولد ، ولما كانت الأيام نتوالى جعل ذلك كهيئة الولادة ، ولما لم يكن بعد ذلك اليوم يوم وصف بالعقم ؛ وقيل : يوم حرب يقتلون فيه كيوم بدر ؛ وقيل إن اليوم وصف بالعقم ؛ لأنه لا رأفة فيه ولا رحمة ، فكأنه عقيم من الخير ، ومنه قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ) (١) أي :
__________________
(١). الذاريات : ٤١.