شفاها ، والنبيّ : الذي يكون إلهاما أو مناما. وقيل : الرسول : من بعث بشرع وأمر بتبليغه ، والنبيّ : من أمر أن يدعو إلى شريعة من قبله ، ولم ينزل عليه كتاب ، ولا بدّ لهما جميعا من المعجزة الظاهرة. (إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) معنى تمنّى : تشهّى وهيّأ في نفسه ما يهواه. قال الواحدي : وقال المفسرون : معنى تمنّى : تلا. قال جماعة المفسرين في سبب نزول هذه الآية : إنه صلىاللهعليهوسلم لما شقّ عليه إعراض قومه عنه تمنّى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفّرهم عنه لحرصه على إيمانهم ، فكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (١) فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ـ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) (٢) وكان ذلك التّمنّي في نفسه ، فجرى على لسانه مما ألقاه الشيطان عليه : تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها لترتجى ، فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قراءته حتى ختم السورة ، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين ، فتفرّقت قريش مسرورين بذلك وقالوا : قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر ، فأتاه جبريل فقال : ما صنعت؟ تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله ، فحزن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وخاف خوفا شديدا ، فأنزل الله هذه الآية. هكذا قالوا.
ولم يصحّ شيء من هذا ، ولا ثبت بوجه من الوجوه ، ومع عدم صحته بل بطلانه فقد دفعه المحقّقون بكتاب الله سبحانه ، قال الله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ ـ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ـ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ) (٣) وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) (٤) وقوله : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ) (٥) فنفى المقاربة للركون فضلا عن الركون. قال البزار : هذا حديث لا نعلمه يروى عن النبي صلىاللهعليهوسلم بإسناد متصل. وقال البيهقي : هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل ، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم. وقال إمام الأئمة ابن خزيمة : إن هذه القصة من وضع الزنادقة. قال القاضي عياض في «الشفا» : إن الأمة أجمعت فيما طريقه البلاغ أنه معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه ، لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا. قال ابن كثير : قد ذكر كثير من المفسرين هاهنا قصة الغرانيق ، وما كان من رجوع كثير من المهاجرين إلى أرض الحبشة ظنا منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، ولكنها من طرق كلها مرسلة ، ولم أرها مسندة من وجه صحيح. وإذا تقرّر لك بطلان ذلك عرفت أن معنى (تَمَنَّى) قرأ وتلا ، كما قدّمنا من حكاية الواحدي لذلك عن المفسرين. وكذا قال البغوي : إن أكثر المفسرين قالوا معنى (تَمَنَّى) تلا وقرأ كتاب الله ، ومعنى (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) أي : في تلاوته وقراءته. قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام ، ويؤيد هذا ما تقدّم في تفسير قوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) وقيل : معنى (تَمَنَّى) حدّث ، ومعنى (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) في حديثه ، روي هذا عن ابن عباس. وقيل : معنى (تَمَنَّى) : قال. فحاصل معنى الآية : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك من دون أن يتكلّم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ،
__________________
(١). النجم : ١.
(٢). النجم : ١٩ ـ ٢٠.
(٣). الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.
(٤). النجم : ٣.
(٥). الإسراء : ٧٤.