تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (١١١) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١١٢))
بيّن سبحانه حال معبودهم يوم القيامة فقال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) وهذا خطاب منه سبحانه لأهل مكة ، والمراد بقوله «وما تعبدون» : الأصنام التي كانوا يعبدون. قرأ الجمهور (حَصَبُ) بالصاد المهملة ، أي : وقود جهنم وحطبها ، وكل ما أوقدت به النار أو هيّجتها به فهو حصب ، كذا قال الجوهري. قال أبو عبيدة : كل ما قذفته في النار فقد حصبتها به ، ومثل ذلك قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) (١) وقرأ عليّ بن أبي طالب وعائشة حطب جهنّم بالطاء ، وقرأ ابن عباس «حضب» بالضاد المعجمة. قال القراء : ذكر لنا أن الحضب في لغة أهل اليمن الحطب ، ووجه إلقاء الأصنام في النار ، مع كونها جمادات لا تعقل ذلك ولا تحسّ به : التبكيت لمن عبدها ، وزيادة التوبيخ لهم ، وتضاعف الحسرة عليهم ؛ وقيل : إنها تحمى فتلصق بهم زيادة في تعذيبهم ، وجملة (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) إما مستأنفة أو بدل من (حَصَبُ جَهَنَّمَ) ، والخطاب لهم ولما يعبدون تغليبا ، واللام في (لَها) للتقوية لضعف عمل اسم الفاعل ؛ وقيل : هي بمعنى على ، والمراد بالورود هنا الدخول. قال كثير من أهل العلم : ولا يدخل في هذه الآية عيسى وعزير والملائكة ؛ لأن ما لمن لا يعقل ، ولو أراد العموم لقال : «ومن يعبدون». قال الزّجّاج : ولأنّ المخاطبين بهذه الآية مشركو مكة دون غيرهم (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) أي : لو كانت هذه الأصنام آلهة كما تزعمون ما وردوها ، أي : ما ورد العابدون هم والمعبودون النار ؛ وقيل : ما ورد العابدون فقط ، لكنهم وردوها فلم يكونوا آلهة ، وفي هذا تبكيت لعباد الأصنام وتوبيخ شديد ، (وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ) أي : كلّ العابدين والمعبودين في النار خالدون لا يخرجون منها. (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) أي : لهؤلاء الذين وردوا النار ، والزفير : صوت نفس المغموم ، والمراد هنا الأنين والتنفّس الشديد ، وقد تقدّم بيان هذا في هود. (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) أي : لا يسمع بعضهم زفير بعض لشدّة الهول ؛ وقيل : لا يسمعون شيئا ؛ لأنهم يحشرون صمّا ، كما قال سبحانه : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) (٢) وإنّما سلبوا السماع ؛ لأن فيه بعض تروّح وتأنس ؛ وقيل : لا يسمعون ما يسرّهم ، بل يسمعون ما يسوءهم. ثم لمّا بيّن سبحانه حال هؤلاء الأشقياء شرع في بيان حال السعداء ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) أي : الخصلة الحسنى التي هي أحسن الخصال وهي السعادة ، وقيل : التوفيق ، أو التبشير بالجنة ، أو نفس الجنة (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) إشارة إلى الموصوفين بتلك الصفة (عَنْها) أي : عن جهنم (مُبْعَدُونَ) لأنهم قد صاروا في الجنة (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) الحسّ والحسيس : الصوت تسمعه من الشيء يمرّ قريبا منك. والمعنى : لا يسمعون حركة النار وحركة أهلها ، وهذه الجملة بدل من مبعدون ، أو حال من ضميره (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ) أي : دائمون ، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذّ
__________________
(١). البقرة : ٢٤.
(٢). الإسراء : ٩٧.