خير من يبقى بعد كلّ من يموت ، فأنت حسبي إن لم ترزقني ولدا ، فإني أعلم أنك لا تضيع دينك ، وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره له وترتضيه للتبليغ (فَاسْتَجَبْنا لَهُ) دعاءه (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى). وقد تقدّم مستوفي في سورة مريم. (وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) ، قال أكثر المفسرين : إنها كانت عاقرا فجعلها الله ولودا ، فهذا هو المراد بإصلاح زوجه ؛ وقيل : كانت سيّئة الخلق ، فجعلها الله سبحانه حسنة الخلق ، ولا مانع من إرادة الأمرين جميعا ، وذلك بأن يصلح الله سبحانه ذاتها ، فتكون ولودا بعد أن كانت عاقرا ، ويصلح أخلاقها ، فتكون أخلاقها مرضية بعد أن كانت غير مرضية. وجملة (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) للتعليل لما قبلها من إحسانه سبحانه إلى أنبيائه عليهم الصلاة والسلام ، فالضمير المذكور راجع إليهم ، وقيل : هو راجع إلى زكريا وامرأته ويحيى. ثم وصفهم الله سبحانه بأنهم كانوا يدعونه (رَغَباً وَرَهَباً) أي : يتضرّعون إليه في حال الرّخاء وحال الشدّة ، وقيل : الرغبة : رفع بطون الأكفّ إلى السماء ، والرهبة رفع ظهورها. وانتصاب رغبا ورهبا على المصدرية ، أي : يرغبون رغبا ويرهبون رهبا ، أو على العلة ، أي : للرّغب والرّهب ، أو على الحال ، أي : راغبين وراهبين. وقرأ طلحة بن مصرّف ويدعونا بنون واحدة ، وقرأ الأعمش بضم الراء فيهما وإسكان ما بعده ، وقرأ ابن وثّاب بفتح الراء فيهما مع إسكان ما بعده ، ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو ، وقرأ الباقون بفتح الراء وفتح ما بعده فيهما. (وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) أي : متواضعين متضرّعين (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : واذكر خبرها ، وهي مريم ، فإنها أحصنت فرجها من الحلال والحرام ، ولم يمسسها بشر ، وإنما ذكرها مع الأنبياء ، وإن لم تكن منهم ، لأجل ذكر عيسى ، وما في ذكر قصّتها من الآية الباهرة (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) أضاف سبحانه الروح إليه ، وهو للملك تشريفا وتعظيما ، وهو يريد روح عيسى (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ) قال الزجّاج : الآية فيهما واحدة ؛ لأنها ولدته من غير فحل ؛ وقيل : إن التقدير على مذهب سيبويه : وجعلناها آية وجعلنا ابنها آية ، كقوله سبحانه : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (١) ، والمعنى : إنّ الله سبحانه جعل قصّتهما آية تامة مع تكاثر آيات كل واحد منهما. وقيل : أراد بالآية الجنس الشامل ، لما لكلّ واحد منهما من الآيات ، ومعنى أحصنت : عفّت فامتنعت من الفاحشة وغيرها ؛ وقيل : المراد بالفرج جيب القميص ؛ أي : أنها طاهرة الأثواب ، وقد مضى بيان مثل هذا في سورة النساء ومريم. ثم لمّا ذكر سبحانه الأنبياء بيّن أنهم كلّهم مجتمعون على التوحيد فقال : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً) والأمة : الدّين كما قال ابن قتيبة ، ومنه : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ) (٢) أي : على دين ، كأنه قال : إن هذا دينكم دين واحد لا خلاف بين الأمم المختلفة في التوحيد ، ولا يخرج عن ذلك إلا الكفرة المشركون بالله ؛ وقيل : المعنى : إنّ هذه الشريعة التي بيّنتها لكم في كتابكم شريعة واحدة ؛ وقيل : المعنى : إن هذه ملّتكم ملّة واحدة ، وهي ملّة الإسلام. وانتصاب أمة واحدة على الحال ، أي : متفقة غير مختلفة ، وقرئ : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) بنصب أمتكم على البدل من اسم إنّ والخبر «أمة واحدة». وقرئ برفع (أُمَّتُكُمْ) ورفع أمة على أنهما خبران ؛ وقيل : على إضمار مبتدأ ، أي : هي أمة واحدة. وقرأ
__________________
(١). التوبة : ٦٢.
(٢). الزخرف : ٢٢.