المقصود من هذه المعجزات فقال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) وخصّه بالذكر لأن قومه تبع له ، ثم علّل ذلك بقوله : (إِنَّهُ طَغى) أي : عصى وتكبّر وكفر وتجبر وتجاوز الحدّ ، وجملة (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) مستأنفة جواب سؤال مقدّر ، كأنه قيل : فماذا قال؟ ومعنى شرح الصدر توسيعه ، تضرّع عليهالسلام إلى ربه وأظهر عجزه بقوله : (وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي) (١) ، ومعنى تيسير الأمر تسهيله (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) يعني العجمة التي كانت فيه من الجمرة التي ألقاها في فيه وهو طفل ، أي : أطلق عن لساني العقدة التي فيه ، قيل : أذهب الله سبحانه تلك العقدة جميعها بدليل قوله : (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى) وقيل : لم تذهب كلها لأنه لم يسأل حلّ عقدة لسانه بالكلية ، بل سأل حلّ عقدة تمنع الإفهام ، بدليل قوله : (مِنْ لِسانِي) أي : كائنة من عقد لساني ، ويؤيد ذلك قوله : (هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) (٢) ، وقوله حكاية عن فرعون : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) (٣) ، وجواب الأمر قوله : (يَفْقَهُوا قَوْلِي) أي : يفهموا كلامي ، والفقه في كلام العرب الفهم ، ثم خصّ به علم الشريعة ، والعالم به فقيه ، قاله الجوهري : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ـ هارُونَ أَخِي) الوزير : المؤازر كالأكيل المؤاكل ؛ لأنه يحمل عن السلطان وزره ، أي : ثقله. قال الزجاج : واشتقاقه في اللغة من الوزر ، وهو الجبل الذي يعتصم به لينجى من الهلكة ، والوزير : الذي يعتمد الملك على رأيه في الأمور ويلتجئ إليه. وقال الأصمعي : هو مشتق من المؤازرة ، وهي المعاونة ، وانتصاب وزيرا وهارون على أنهما مفعولا اجعل ، وقيل : مفعولاه : لي وزيرا ، ويكون هارون عطف بيان للوزير ، والأوّل أظهر ، ويكون لي متعلقا بمحذوف ، أي : كائنا لي ، ومن أهلي صفة لوزيرا ، وأخي بدل من هارون. قرأ الجمهور (اشْدُدْ) بهمزة وصل ، و (أَشْرِكْهُ) بهمزة قطع كلاهما على صيغة الدعاء ، أي : يا رب أحكم به قوّتي واجعله شريكي في أمر الرسالة ، والأزر : القوة ، يقال : آزره ؛ أي : قوّاه ؛ وقيل : الظهر ، أي : اشدد به ظهري. وقرأ ابن عامر ويحيى بن الحارث وأبو حيوة والحسن وعبد الله بن أبي إسحاق (اشْدُدْ) بهمزة قطع (وَأَشْرِكْهُ) بضم الهمزة ، أي أشدد أنا به أزري ، وأشركه أنا في أمري. قال النحّاس : جعلوا الفعلين في موضع جزم جوابا لقوله (اجْعَلْ لِي وَزِيراً) ، وقرأ بفتح الياء من أخي ابن كثير وأبو عمرو (كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً) هذا التسبيح والذكر هما الغاية من الدعاء المتقدّم ، والمراد : التسبيح هنا باللسان ؛ وقيل : المراد به الصلاة ، وانتصاب كثيرا في الموضعين على أنه نعت مصدر محذوف ، أو لزمان محذوف (إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) البصير : المبصر ، والبصير : العالم بخفيات الأمور ، وهو المراد هنا ، أي : إنك كنت بنا عالما في صغرنا فأحسنت إلينا ، فأحسن إلينا أيضا كذلك الآن.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في عصا موسى قال : أعطاه إياها ملك من الملائكة إذ توجه إلى مدين فكانت تضيء له بالليل ، ويضرب بها الأرض فتخرج له النبات ، ويهشّ بها على غنمه ورق الشجر. وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عكرمة في قوله : (وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي) قال : أضرب بها الشجر فيتساقط منه الورق على غنمي ، وقد روي نحو هذا عن جماعة من السلف. وأخرج ابن المنذر وابن
__________________
(١). الشعراء : ١٣.
(٢). القصص : ٣٤.
(٣). الزخرف : ٥٢.