قدمتم لهنّ ، أي : ما ادخرتم لأجلهنّ فهو من باب : نهاره صائم ، ومنه قول الشاعر :
نهارك يا مغرور سهو وغفلة |
|
وليلك نوم والرّدى لك لازم |
(إِلَّا قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ) أي مما تحبسون من الحب لتزرعوا به ؛ لأنّ في استبقاء البذر تحصين الأقوات. وقال أبو عبيدة : معنى تحصنون : تحرزون ، وقيل : تدّخرون ، والمعنى واحد. قوله : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي من بعد السّنين المجدبات ، فالإشارة إليها ، والعام السنة (فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ) من الإغاثة أو الغوث ، والغيث المطر ، وقد غاث الغيث الأرض ، أي أصابها ، وغاث الله البلاد يغيثها غوثا : أمطرها ، فمعنى يغاث الناس : يمطرون (وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يعصرون الأشياء التي تعصر كالعنب والسمسم والزيتون ، وقيل : أراد حلب الألبان ؛ وقيل : معنى يعصرون : ينجون. مأخوذ من العصرة ، وهي المنجاة. قال أبو عبيدة : والعصر بالتحريك الملجأ والمنجاة ، ومنه قول الشاعر :
صاديا يستغيث غير مغاث |
|
ولقد كان عصرة المنجود |
واعتصرت بفلان : التجأت به. وقرأ حمزة والكسائي (تعصرون) بناء الخطاب. وقرئ «يعصرون» بضم حرف المضارعة وفتح الصاد ، ومعناه يمطرون ، ومنه قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) (١).
وقد أخرج ابن إسحاق وابن أبي حاتم عن مجاهد قال : قال يوسف للساقي : اذكرني عند ربك ؛ أي : الملك الأعظم ومظلمتي وحبسي في غير شيء ، فقال : أفعل ؛ فلما خرج الساقي ردّ على ما كان عليه ، ورضي عنه صاحبه ، وأنساه الشيطان ذكر الملك الذي أمره يوسف أن يذكره له ، فلبث يوسف بعد ذلك في السجن بضع سنين ؛ ثم إن الملك ريان بن الوليد رأى رؤياه التي أري فيها ، فهالته ، وعرف أنها رؤيا واقعة ، ولم يدر ما تأويلها ، فقال للملأ حوله من أهل مملكته : (إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) فلما سمع من الملك ما سمع منه ومسألته عن تأويلها ذكر يوسف ما كان عبر له ولصاحبه وما جاء من ذلك على ما قاله فقال : أنا أنبئكم بتأويله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) يقول : مشتبهة. وأخرج أبو يعلى وابن جرير عنه قال : من الأحلام الكاذبة. وأخرج ابن جرير عن الضحّاك مثله. وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس في قوله : (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) قال : بعد حين. وأخرج ابن جرير عن مجاهد والحسن وعكرمة وعبد الله بن كثير والسدّي مثله. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال : بعد سنين. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال : بعد أمة من الناس. وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة في قوله : (أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ) الآية ، قال : أما السّمان فسنون فيها خصب ، وأما العجاف فسنون مجدبة ، وسبع سنبلات خضر هي السّنون المخاصيب تخرج الأرض نباتها وزرعها وثمارها ، وأخر يابسات المحول الجدوب لا تنبت شيئا.
__________________
(١). النبأ : ١٤.