على لسان نبيّ في وقته ، وكأن ذا القرنين خاطب أولئك القوم فلا يلزم ما ذكره. ويمكن أن يكون مخاطبا للنبيّ الذي خاطبه الله على لسانه ، أو خاطب قومه الذين وصل بهم إلى ذلك الموضع. قال ثعلب : إنّ في قوله : (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ) في موضع نصب ، ولو رفعت لكان صوابا بمعنى فأما هو ، كقول الشاعر :
فسيرا فإمّا حاجة تقضيانها |
|
وإمّا مقيل صالح وصديق |
(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) بالله وصدّق دعوتي (وَعَمِلَ) عملا (صالِحاً) ممّا يقتضيه الإيمان (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) قرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم وابن كثير وابن عامر (فَلَهُ جَزاءً) بالرفع على الابتداء ، أي : جزاء الخصلة الحسنى عند الله ، أو الفعلة الحسنى وهي الجنة ، قاله الفرّاء. وإضافة الجزاء إلى الحسنى التي هي الجنة كإضافة حق اليقين ودار الآخرة ، ويجوز أن يكون هذا الجزاء من ذي القرنين ، أي : أعطيه وأتفضّل عليه ، وقرأ سائر الكوفيين (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) بنصب جزاء وتنوينه. قال الفراء : انتصابه على التمييز. وقال الزجاج : هو مصدر في موضع الحال ، أي : مجزيا بها جزاء ، وقرأ ابن عباس ومسروق بنصب (جَزاءً) من غير تنوين. قال أبو حاتم : هي على حذف التنوين لالتقاء الساكنين. قال النحّاس : وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين. وقرئ برفع جزاء منوّنا على أنه مبتدأ ، والحسنى بدل منه والخبر الجارّ والمجرور (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) أي : ممّا نأمر به قولا ذا يسر ليس بالصعب الشاق ، أو أطلق عليه المصدر مبالغة (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) أي : طريقا آخر غير الطريق الأولى ، وهي التي رجع بها من المغرب ، وسار فيها إلى المشرق (حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) أي : الموضع الذي تطلع عليه الشمس أوّلا من معمور الأرض ، مكان طلوع ، لعدم المانع شرعا ولا عقلا من وصوله إليه كما أوضحناه فيما سبق (وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) يسترهم ، لا من البيوت ولا من اللباس ، بل هم حفاة عراة لا يأوون إلى شيء من العمارة. قيل : لأنهم بأرض لا يمكن أن يستقرّ عليها البناء (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) أي : كذلك أمر ذي القرنين أتبع هذه الأسباب حتى بلغ ، وقد علمنا حين ملكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك والاستقلال به ؛ وقيل : المعنى : لم نجعل لهم سترا مثل ذلك الستر الذي جعلنا لكم من الأبنية والثياب ؛ وقيل : المعنى : كذلك بلغ مطلع الشمس مثل ما بلغ من مغربها ؛ وقيل : المعنى : كذلك تطلع على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم ، فقضى في هؤلاء كما قضى في أولئك من تعذيب الظالمين والإحسان إلى المؤمنين ، ويكون تأويل الإحاطة بما لديه في هذه الوجوه على ما يناسب ذلك ، كما قلنا في الوجه الأوّل.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال : قالت اليهود للنبيّ صلىاللهعليهوسلم : يا محمد إنك إنما تذكر إبراهيم وموسى وعيسى والنبيين ، إنك سمعت ذكرهم منّا ، فأخبرنا عن نبيّ لم يذكره الله في التوراة إلا في مكان واحد ، قال : ومن هو؟ قالوا : ذو القرنين ، قال : ما بلغني عنه شيء ، فخرجوا فرحين قد غلبوا في أنفسهم ، فلم يبلغوا باب البيت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ). وأخرج عبد الرزاق