وَبَيْنِكَ) على إضافة فراق إلى الظرف اتساعا ، أي : هذا الكلام والإنكار منك على ترك الأجر هو المفرق بيننا. قال الزجاج : المعنى هذا فراق بيننا ، أي : هذا فراق اتصالنا ، وكرّر بين تأكيدا ، ولما قال الخضر لموسى بهذا أخذ في بيان الوجه الذي فعل بسببه تلك الأفعال التي أنكرها موسى فقال : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) والتأويل : رجوع الشيء إلى مآله. ثم شرع في البيان له فقال : (أَمَّا السَّفِينَةُ) يعني التي خرقها (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) لضعفاء لا يقدرون على دفع من أراد ظلمهم (يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) ولم يكن لهم مال غير تلك السفينة يكرونها من الذي يركبون البحر ويأخذون الأجرة ، وقد استدلّ الشافعي بهذه الآية على أن الفقير أسوأ حالا من المسكين (فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها) أي : أجعلها ذات عيب بنزع ما نزعته منها (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) قال المفسرون : يعني أمامهم ، ووراء يكون بمعنى أمام ، وقد مرّ الكلام على هذا في قوله : (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) (١) وقيل : أراد خلفهم ، وكان طريقهم في الرجوع عليه ، وما كان عندهم خبر بأنه (يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) أي كل سفينة صالحة لا معيبة ، وقد قرئ بزيادة «صالحة» روي ذلك عن أبيّ وابن عباس. وقرأ جماعة بتشديد السين من مساكين ، واختلف في معناها ، فقيل : هم ملاحو السفينة ، وذلك أن المساك هو الذي يمسك السفينة ، والأظهر قراءة الجمهور : بالتخفيف (وَأَمَّا الْغُلامُ) يعني الذي قتله (فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) أي : ولم يكن هو كذلك (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما) أي : يرهق الغلام أبويه ، يقال : رهقه ، أي : غشيه ، وأرهقه : أغشاه. قال المفسرون : معناه خشينا أن يحملهما حبه على أن يتبعاه في دينه ، وهو الكفر ، و (طُغْياناً) مفعول يرهقهما (وَكُفْراً) معطوف عليه ، وقيل : المعنى : فخشينا أن يرهق الوالدين طغيانا عليهما وكفرا لنعمتهما بعقوقه. قيل : ويجوز أن يكون فخشينا من كلام الله ، ويكون المعنى : كرهنا كراهة من خشي سوء عاقبة أمره فغيره ، وهذا ضعيف جدا ، فالكلام كلام الخضر. وقد استشكل بعض أهل العلم قتل الخضر لهذا الغلام بهذه العلّة ، فقيل : إنه كان بالغا ، وقد استحقّ ذلك بكفره ، وقيل : كان يقطع الطريق فاستحقّ القتل لذلك ، ويكون معنى (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) : أنّ الخضر خاف على الأبوين أن يذبّا عنه ويتعصّبا له فيقعا في المعصية ، وقد يؤدّي ذلك إلى الكفر والارتداد. والحاصل أنه لا إشكال في قتل الخضر له إذا كان بالغا كافرا ، أو قاطعا للطريق ، هذا فيما تقتضيه الشريعة الإسلامية ، ويمكن أن يكون للخضر شريعة من عند الله سبحانه تسوّغ له ذلك ، وأما إذا كان الغلام صبيا غير بالغ ، فقيل : إن الخضر علم بإعلام الله له أنه لو صار بالغا لكان كافرا يتسبّب عن كفره إضلال أبويه وكفرهما ، وهذا وإن كان ظاهر الشريعة الإسلامية يأباه ، فإن قتل من لا ذنب له ولا قد جرى عليه قلم التكليف لخشية أن يقع منه بعد بلوغه ما يجوز به قتله لا يحلّ في الشريعة المحمدية ، ولكنه حلّ في شريعة أخرى ، فلا إشكال. وقد ذهب الجمهور إلى أن الخضر كان نبيا (فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ) قرأ الجمهور بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال. وقرأ عاصم وابن عامر وأبو جعفر ويعقوب بسكون الباء وتخفيف الدال ، والمعنى : أردنا أن يرزقهما الله بدل هذا الولد ولدا خيرا منه (زَكاةً) أي : دينا وصلاحا
__________________
(١). إبراهيم : ١٧.