(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))
هذا هو بيان ما طلباه منه من تعبير رؤياهما ، والمراد بقوله : (أَمَّا أَحَدُكُما) هو السّاقي ، وإنما أبهمه لكونه مفهوما ، أو لكراهة التصريح للخباز بأنه الذي سيصلب (فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي مالكه ، وهي عهدته التي كان قائما بها في خدمة الملك ، فكأنه قال : أما أنت أيها الساقي فستعود إلى ما كنت عليه ويدعو بك الملك ويطلقك من الحبس (وَأَمَّا الْآخَرُ) وهو الخباز (فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ) تعبيرا لما رآه من أنه يحمل فوق رأسه خبزا فتأكل الطير منه (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) وهو ما رأياه وقصاه عليه ، يقال استفتاه : إذا طلب منه بيان حكم شيء سأله عنه مما أشكل عليه ، وهما قد سألاه تعبير ما أشكل عليهما من الرؤيا (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) أي قال يوسف ، والظانّ هو أيضا يوسف ، والمراد بالظنّ العلم لأنه قد علم من الرؤيا نجاة الشرابي وهلاك الخباز ، هكذا قال جمهور المفسرين ، وقيل : الظاهر على معناه ، لأن عابر الرؤيا إنما يظن ظنا ، والأوّل أولى وأنسب بحال الأنبياء ، ولا سيما وقد أخبر عن نفسه عليهالسلام بأنه قد أطلعه الله على شيء من علم الغيب كما في قوله : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ) (١) الآية وجملة (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) هي مقول القول ، أمره بأن يذكره عند سيده ، ويصفه بما شاهده منه من جودة التعبير والاطلاع على شيء من علم الغيب ، وكانت هذه المقالة منه عليهالسلام صادرة عن ذهول ونسيان عن ذكر الله بسبب الشيطان ، فيكون ضمير المفعول في أنساه عائدا إلى يوسف ، هكذا قال بعض المفسرين ، ويكون المراد بربه في قوله : (ذِكْرَ رَبِّهِ) هو الله سبحانه ، أي : إنساء الشيطان يوسف ذكر الله تعالى في تلك الحال (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) يذكره عند سيده ليكون ذلك سببا لانتباهه على ما أوقعه من الظلم البين عليه بسجنه بعد أن رأى من الآيات ما يدل على براءته. وذهب كثير من المفسّرين إلى أن الذي أنساه الشيطان ذكر ربّه هو الذي نجا من الغلامين ؛ وهو الشرابي ، والمعنى : إنساء الشيطان الشرابي ذكر سيده ؛ أي : ذكره لسيده فلم يبلغ إليه ما أوصاه به يوسف من ذكره عند سيده ، ويكون المعنى : فأنساه الشيطان ذكر إخباره بما أمره به يوسف مع خلوصه من السجن ورجوعه إلى ما كان عليه من القيام بسقي الملك ، وقد رجح هذا بكون الشيطان لا سبيل له على الأنبياء. وأجيب بأن النسيان وقع من يوسف ، ونسبته إلى الشيطان على طريق المجاز ، والأنبياء غير معصومين عن النسيان إلا فيما يخبرون به عن الله سبحانه ، وقد صحّ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ، فإذا نسيت فذكّروني». ورجح أيضا بأن النسيان ليس بذنب ، فلو كان الذي أنساه الشيطان ذكر ربه هو يوسف لم يستحق العقوبة على ذلك بلبثه في السجن بضع سنين. وأجيب بأن النسيان هنا بمعنى الترك ، وأنه عوقب بسبب استعانته بغير الله
__________________
(١). يوسف : ٣٧.