في التبرّي من الأوثان والتديّن بدين الإسلام ؛ وقيل : في مناسك الحج ؛ وقيل : في الأصول دون الفروع ؛ وقيل : في جميع شريعته إلا ما نسخ منها ، وهذا هو الظاهر. وقد أمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالاقتداء بالأنبياء مع كونه سيدهم ، فقال تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (١) ، وانتصاب (حَنِيفاً) على الحال من إبراهيم ، وجاز مجيء الحال منه ؛ لأنّ الملّة كالجزء منه ، وقد تقرّر في علم النحو أن الحال من المضاف إليه جائز ، إذا كان يقتضي المضاف العمل في المضاف إليه ، أو كان جزءا منه ، أو كالجزء (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وهو تكرير لما سبق للنكتة التي ذكرناها (إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ) أي : إنما جعل وبال السبت ، وهو المسخ ، على الذين اختلفوا فيه ، أو إنما جعل فرض تعظيم السبت وترك الصيد فيه على الذين اختلفوا فيه لا على غيرهم من الأمم.
وقد اختلف العلماء في كيفية الاختلاف الكائن بينهم في السبت ، فقالت طائفة : إن موسى أمرهم بيوم الجمعة ، وعيّنه لهم ، وأخبرهم بفضيلته على غيره ، فخالفوه ، وقالوا : إن السبت أفضل ، فقال الله له : دعهم وما اختاروا لأنفسهم. وقيل : إن الله سبحانه أمرهم بتعظيم يوم في الأسبوع ، فاختلف اجتهادهم فيه ، فعينت اليهود السبت لأن الله سبحانه فرغ فيه من الخلق ، وعينت النصارى يوم الأحد لأن الله بدأ فيه الخلق ، فألزم الله كلا منهم ما أدّى إليه اجتهاده ، وعين لهذه الأمة الجمعة من غير أن يكلهم إلى اجتهادهم فضلا منه ونعمة. ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها أن اليهود كانوا يزعمون أن السبت من شرائع إبراهيم ، فأخبر الله سبحانه أنه إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ولم يجعله على إبراهيم ولا على غيره (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) أي : بين المختلفين فيه (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فيجازي كلا فيه بما يستحقه ثوابا وعقابا ، كما وقع منه سبحانه من المسخ لطائفة منهم والتنجية لأخرى ، ثم أمر الله سبحانه رسوله أن يدعو أمّته إلى الإسلام فقال : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) وحذف المفعول للتعميم ؛ لكونه بعث إلى الناس كافة ، وسبيل الله هو الإسلام (بِالْحِكْمَةِ) أي : بالمقالة المحكمة الصحيحة ، قيل : وهي الحجج القطعية المفيدة لليقين (وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) وهي المقالة المشتملة على الموعظة الحسنة التي يستحسنها السامع ، وتكون في نفسها حسنة باعتبار انتفاع السامع بها. قيل : وهي الحجج الظنية الإقناعية الموجبة للتصديق بمقدّمات مقبولة ، قيل : وليس للدعوة إلا هاتان الطريقتان ، ولكن الداعي قد يحتاج مع الخصم الألدّ إلى استعمال المعارضة والمناقضة ونحو ذلك من الجدل ، ولهذا قال سبحانه : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي : بالطريق التي هي أحسن طرق المجادلة ، وإنما أمر سبحانه بالمجادلة الحسنة لكون الداعي محقّا وغرضه صحيحا ، وكان خصمه مبطلا وغرضه فاسدا (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) لما حثّ سبحانه على الدعوة بالطرق المذكورة ؛ بيّن أن الرشد والهداية ليس إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم وإنما ذلك إليه تعالى ، فقال : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ) أي : هو العالم بمن يضلّ ومن يهتدي (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) أي : بمن يبصر الحقّ فيقصده غير متعنت ، وإنما شرع لك الدعوة وأمرك بها قطعا للمعذرة وتتميما للحجة وإزاحة للشبهة ، وليس عليك غير ذلك ، ثم لما كانت الدعوة تتضمّن تكليف
__________________
(١). الأنعام : ٩٠.