أو هو مبتدأ خبره محذوف ، أي : لهم متاع قليل (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يردّون إليه في الآخرة. ثم خصّ محرمات اليهود بالذكر فقال : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا) أي : حرّمنا عليهم خاصة دون غيرهم (ما قَصَصْنا عَلَيْكَ) بقولنا : (حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما) (١) الآية ، و (مِنْ قَبْلُ) متعلّق بقصصنا أو بحرمنا (وَما ظَلَمْناهُمْ) بذلك التحريم بل جزيناهم ببغيهم (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث فعلوا أسباب ذلك فحرّمنا عليهم تلك الأشياء عقوبة لهم. ثم بيّن سبحانه أن الافتراء على الله سبحانه ومخالفة أمره لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة فقال : (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ) أي : متلبسين بجهالة ، وقد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة النساء (ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد عملهم للسوء ، وفيه تأكيد فإن ثم قد دلّت على البعدية فأكدها بزيادة ذكر البعدية (وَأَصْلَحُوا) أعمالهم التي كان فيها فساد بالسوء الذي عملوه ، ثم كرّر ذلك تأكيدا وتقريرا فقال : (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها) أي : من بعد التوبة (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) كثير الغفران واسع الرحمة.
وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً) قال : يعني مكة. وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن عطية في الآية مثله وزاد فقال : ألا ترى أنه قال : (وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ). وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن شهاب قال : القرية التي قال الله : (كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) هي : يثرب. قلت : ولا أدري أيّ دليل دلّه على هذا التعيين ، ولا أيّ قرينة قامت له على ذلك ، ومتى كفرت دار الهجرة ومسكن الأنصار بأنعم الله ، وأيّ وقت أذاقها الله لباس الجوع والخوف ، وهي التي تنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد كما صحّ ذلك عن الصادق المصدوق. وصحّ عنه أيضا أنه قال : «والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون». وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله : (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ) الآية قال : في البحيرة والسائبة. وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي نضرة قال : قرأت هذه الآية في سورة النحل (وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ) إلى آخر الآية ، فلم أزل أخاف الفتيا إلى يومي هذا. قلت : صدق رحمهالله ، فإن هذه الآية تتناول بعموم لفظها فتيا من أفتى بخلاف ما في كتاب الله أو في سنة رسوله صلىاللهعليهوسلم ، كما يقع كثيرا من المؤثرين للرأي المقدّمين له على الرواية ، أو الجاهلين لعلم الكتاب والسنّة كالمقلدة ، وإنهم لحقيقون بأن يحال بينهم وبين فتاويهم ويمنعوا من جهالاتهم ، فإنهم أفتوا بغير علم من الله ولا هدى ولا كتاب منير فضلّوا وأضلّوا ، فهم ومن يستفتيهم كما قال القائل :
كبهيمة عمياء قاد زمامها |
|
أعمى على عوج الطريق الجائر |
وأخرج الطبراني عن ابن مسعود قال : عسى رجل أن يقول إن الله أمر بكذا أو نهى عن كذا ، فيقول الله عزوجل له : كذبت ؛ أو يقول : إن الله حرّم كذا أو أحلّ كذا ، فيقول الله له : كذبت. وأخرج ابن
__________________
(١). الأنعام : ١٤٦.