يفيد أنهم متناهون في الغفلة ، إذ لا غفلة أعظم من غفلتهم هذه (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي : الكاملون في الخسران البالغون إلى غاية منه ليس فوقها غاية ، وقد تقدّم تحقيق الكلام في معنى : (لا جَرَمَ) ، في مواضع منها ما هو في هذه السورة (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا) من دار الكفر إلى دار الإسلام ، وخبر إن محذوف ، والتقدير (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وإنما حذف لدلالة خبر إن ربك المتأخرة عليه ؛ وقيل : الخبر هو (لِلَّذِينَ هاجَرُوا) أي : إن ربك لهم بالولاية والنصرة لا عليهم ، وفيه بعد ؛ وقيل : إن خبرها هو قوله (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وإن ربك الثانية تأكيد للأولى. قال في الكشاف : ثم ها هنا للدلالة على تباعد حال هؤلاء ، يعني الذين نزلت الآية فيهم عن حال أولئك ، وهم عمار وأصحابه ، ويدل على ذلك ما روي أنها نزلت في عبد الله بن أبي سرح (١) ، وسيأتي بيان ذلك (مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا) أي : فتنهم الكفار بتعذيبهم لهم ليرجعوا في الكفر ، وقرئ فتنوا على البناء للفاعل ، أي : اللذين فتنوا المؤمنين وعذّبوهم على الإسلام (ثُمَّ جاهَدُوا) في سبيل الله وصبروا على ما أصابهم من الكفار ، وعلى ما يلقونه من مشاق التكليف (لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) أي : كثير الغفران والرحمة لهم ، ومعنى الآية على قراءة من قرأ فتنوا على البناء للفاعل واضح ظاهر ، أي : إن ربك لهؤلاء الكفار الذين فتنوا من أسلم وعذبوهم ثم جاهدوا وصبروا لغفور رحيم ، وأما على قراءة البناء للمفعول وهي قراءة الجمهور ، فالمعنى : أن هؤلاء المفتونين الذين تكلّموا بكلمة الكفر مكرهين وصدورهم غير منشرحة للكفر إذا صلحت أعمالهم ، وجاهدوا في الله ، وصبروا على المكاره ، لغفور لهم رحيم بهم ؛ وأما إذا كان سبب الآية هذه هو عبد الله بن أبي سرح الذي ارتدّ عن الإسلام ، ثم رجع بعد ذلك إلى الإسلام ، فالمعنى : أن هذا المفتون في دينه بالرّدة إذا أسلم وجاهد وصبر فالله غفور له رحيم به ، والضمير في بعدها يرجع إلى الفتنة أو إلى المهاجرة والجهاد والصبر ، أو إلى الجميع (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) قال الزجاج : يوم تأتي منتصب بقوله «رحيم» ، أو بإضمار اذكر ، أو ذكرهم ، أو أنذرهم ، وقد استشكل إضافة ضمير النفس إلى النفس ، ولا بد من التغاير بين المضاف والمضاف إليه. وأجيب بأن المراد بالنفس الأولى جملة بدن الإنسان ، وبالنفس الثانية الذات ، فكأن قيل : يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته لا يهمّه غيرها ، ومعنى المجادلة عنها الاعتذار عنها ، فهو مجادل ومخاصم عن نفسه لا يتفرّغ لغيرها يوم القيامة.
وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال : لما أراد رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه : تفرّقوا عني ، فمن كانت به قوّة فليتأخر إلى آخر الليل ، ومن لم تكن به قوّة فليذهب في أوّل الليل ، فإذا سمعتم بي قد استقرّت بي الأرض فالحقوا بي ، فأصبح بلال المؤذن وخبّاب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت ، فأخذهم المشركون وأبو جهل ، فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى ، فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه ، فإذا ألبسوها إياه قال : أحد أحد ؛ وأما خباب فجعلوا يجرّونه في الشوك ؛ وأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية ؛ وأما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ، ثم مدّها فأدخل الحربة في قبلها حتى قتلها ، ثم خلّوا عن بلال وخباب وعمار فلحقوا برسول الله صلىاللهعليهوسلم فأخبروه بالذي كان من أمرهم ، واشتدّ على عمار الذي كان تكلّم به ، فقال له رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كيف كان قلبك حين قلت
__________________
(١). هو عبد الله بن سعد بن أبي السرح.