(١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))
قوله : (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ) قد اختلف أهل العلم في إعرابه ، فذهب الأكثرون على أنه بدل ، إما من (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ) وما بينهما اعتراض ، والمعنى : إنما يفتري الكذب من كفر ، واستثنى منهم المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء. ثم قال : (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) أي : اعتقده ، وطابت به نفسه ، واطمأن إليه (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وإما من المبتدأ الذي هو : (أُولئِكَ) ، أو من الخبر الذي هو : (الْكاذِبُونَ) ، وذهب الزجاج إلى الأوّل ، وقال الأخفش : إن من مبتدأ وخبره محذوف اكتفي منه بخبر من الثانية ، كقولك : من يأتنا من يحسن نكرمه ؛ وقيل : هو ، أي (مَنْ ١٠٦) في (مَنْ كَفَرَ) منصوب على الذمّ ، وقيل : إن من شرطية والجواب محذوف ؛ لأن جواب (مَنْ شَرَحَ) دالّ عليه ، وهو كقول الأخفش ، وإنما خالفه في إطلاق لفظ الشرط على من والجواب على خبرها فكأنه قيل على هذا من كفر بالله فعليهم غضب إلا من أكره ، ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب ، وإنما صح استثناء المكره من الكافر مع أنه ليس بكافر لأنه ظهر منه بعد الإيمان ما لا يظهر إلا من الكافر لو لا الإكراه. قال القرطبي : أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل أنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ولا تبين منه زوجته ، ولا يحكم عليه بحكم الكفر. وحكي عن محمد بن الحسن : أنه إذا أظهر الكفر كان مرتدا في الظاهر ، وفيما بينه وبين الله على الإسلام ، وتبين منه امرأته ، ولا يصلى عليه إن مات ، ولا يرث أباه إن مات مسلما ، وهذا القول مردود على قائله ، مدفوع بالكتاب والسنة ، وذهب الحسن البصري والأوزاعي والشافعي وسحنون إلى أن هذه الرخصة المذكورة في هذه الآية إنما جاءت في القول ، وأما في الفعل فلا رخصة ، مثل أن يكره على السجود لغير الله ويدفعه ظاهر الآية ، فإنها عامة فيمن أكره من غير فرق بين القول والفعل ، ولا دليل لهؤلاء القاصرين للآية على القول وخصوص السبب لا اعتبار به مع عموم اللفظ ؛ كما تقرر في علم الأصول ، وجملة (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) في محل نصب على الحال من المستثنى ، أي : إلا من كفر بإكراه ، والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته ، وليس بعد هذا الوعيد العظيم وهو الجمع للمرتدين بين غضب الله وعظيم عذابه ، والإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الكفر بعد الإيمان ، أو إلى الوعيد بالغضب والعذاب ، والباء في (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا) للسببية ، أي : ذلك بسبب تأثيرهم للحياة الدنيا (عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) معطوف على : (بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا) ، أي : ذلك بأنهم استحبوا ، وبأن الله لا يهدي القوم الكافرين إلى الإيمان به ، ثم وصفهم بقوله : (أُولئِكَ) أي : الموصوفون بما ذكر من الأوصاف القبيحة (الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فلم يفهموا المواعظ ولا سمعوها. ولا أبصروا الآيات التي يستدل بها على الحق ، وقد سبق تحقيق الطبع في أوّل البقرة ، ثم أثبت لهم صفة نقص غير الصفة المتقدّمة فقال : (وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عمّا يراد بهم ، وضمير الفصل