أي : ألقى أولئك الأصنام والأوثان والشياطين ونحوهم إلى المشركين القول (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) أي : قالوا لهم إنكم أيها المشركون لكاذبون فيما تزعمون من إحالة الذنب علينا ، الذي هو مقصودكم من هذا القول. فإن قيل إن المشركين أشاروا إلى الأصنام ونحوها أن هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك ، وقد كانوا صادقين في ذلك ، فكيف كذبتهم الأصنام ونحوها؟ فالجواب بأن مرادهم من قولهم هؤلاء شركاؤنا : هؤلاء شركاء الله في المعبودية ، فكذبتهم الأصنام في دعوى هذه الشركة ؛ والأصنام والأوثان وإن كانت لا تقدر على النطق فإنّ الله سبحانه ينطقها في تلك الحال لتخجيل المشركين وتوبيخهم ، وهذا كما قالت الملائكة : (بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) (١) يعنون أن الجنّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لهم (وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) أي : ألقى المشركون يوم القيامة الاستسلام والانقياد لعذابه والخضوع لعزّته ، وقيل : استسلم العابد والمعبود وانقادوا لحكمه فيهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي : ضاع وبطل ما كانوا يفترونه من أن لله سبحانه شركاء وما كانوا يزعمون من شفاعتهم لهم ، وأن عبادتهم لهم تقرّبهم إلى الله سبحانه (الَّذِينَ كَفَرُوا) في أنفسهم (وَصَدُّوا) غيرهم (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : عن طريق الحق ، وهي طريق الإسلام والإيمان بأن منعوهم من سلوكها وحملوهم على الكفر ؛ وقيل : المراد بالصدّ عن سبيل الله : الصدّ عن المسجد الحرام ، والأولى العموم. ثم أخبر عن هؤلاء الذين صنعوا هذا الصنع بقوله : (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) أي : زادهم الله عذابا لأجل الإضلال لغيرهم فوق العذاب الذي استحقوه لأجل ضلالهم ؛ وقيل : المعنى : زدنا القادة عذابا فوق عذاب أتباعهم ، أي : أشد منه ؛ وقيل : إن هذه الزيادة هي إخراجهم من النار إلى الزمهرير ، وقيل غير ذلك (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ) أي : نبيا يشهد عليهم (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) من جنسهم ، إتماما للحجة وقطعا للمعذرة ، وهذا تكرير لما سبق لقصد التأكيد والتهديد (وَجِئْنا بِكَ) يا محمد (شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ) أي : تشهد على هذه الأمم وتشهد لهم ، وقيل : على أمتك ، وقد تقدّم مثل هذا في البقرة والنساء (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) أي : القرآن ، والجملة مستأنفة أو في محل نصب على الحال بتقدير قد (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) أي : بيانا له ، والتاء للمبالغة ، ونظيره من المصادر التلقاء ، ولم يأت غيرهما ، ومثل هذه الآية قوله سبحانه : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (٢) ، ومعنى كونه تبيانا لكلّ شيء أن فيه البيان لكثير من الأحكام ، والإحالة فيما بقي منها على السنة ، وأمرهم باتباع رسوله صلىاللهعليهوسلم فيما يأتي به من الأحكام ، وطاعته كما في الآيات القرآنية الدالة على ذلك ، وقد صحّ عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إنّي أوتيت القرآن ومثله معه». (وَهُدىً) للعباد (وَرَحْمَةً) لهم (وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) خاصة دون غيرهم ، أو يكون الهدى والرحمة والبشرى خاصة بهم ، لأنهم المنتفعون بذلك. ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيان كل شيء ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقا لذلك فقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ).
وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان ، فقيل : العدل لا إله إلا الله ، والإحسان أداء الفرائض ؛ وقيل : العدل الفرض ، والإحسان النافلة. وقيل : العدل استواء العلانية والسريرة ، والإحسان أن تكون
__________________
(١). سبأ : ٤١.
(٢). الأنعام : ٣٨.