وقد ذكرنا آنفا أنهم كانوا يدعون أن ذلك في كتابهم ، ويجعلونها من شريعة السماء. وقد أبطل سبحانه دعواهم ، وأثبت أن الكذب من عادتهم. وهم يعلمون أن ذلك تشريع باطل ، وافتراء على الله عزوجل ، وهو لا يأمر بالفحشاء والمنكر ، بل إن كتبهم المقدسة تأمرهم بالصدق في أقوالهم وأفعالهم ، وتنهاهم عن الخيانة ، والغدر والكذب ، مضافا إلى أن جميع ذلك من الاحكام العقلية التي استقل العقل بحسنها ، ويلزمهم الشرع بإتيانها.
قوله تعالى : (بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى).
ردّ على مزاعمهم ، وتكذيب لدعواهم ، واثبات لما أراده الله تعالى من خلقه ، وهو الحق. وأوفى من الإيفاء وهو العطاء والبذل تاما من غير زيادة ولا نقيصة. ووفاء العهد هو حفظه ، ومراعاته والعمل به. وقد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة ، فقد ورد فيه : وفي ، وأوف ، وأوفوا ، والموفون.
والعهد عبارة عن الالتزام بشيء فيجب الوفاء به عقلا وشرعا ، بلا فرق فيه بين عهود الله تعالى مع خلقه ، أو عهود بعضهم مع بعض ، كما لا فرق بين العهود الخاصة بين بني إسرائيل ، والعهود العامة بين جميع الناس. والمراد بالعهود في المقام ما عاهده الله تعالى على عباده بواسطة أنبيائه من الإيمان به ، وعبادته ، والتصديق برسله والعمل بما أنزله عزوجل من مكارم الأخلاق وغيرها.
وعلى هذا لا فرق بين رجوع الضمير في (عهده) إلى (من) المتقدمة ، أو الله في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ).
إذ العهود الواقعة بين الناس من عهد الله تعالى ، يجب الوفاء بها شرعا