وبعد هذا البيان الذي يهز القلوب .. عن سوء عاقبة الأشقياء ، ساق ـ سبحانه ـ ما يدخل البهجة والسرور على النفوس ، عن طريق بيان حسن عاقبة السعداء ، فقال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى).
أى : قد أفلح وفاز وانتفع بالتذكير ، من حاول تزكية نفسه وتطهيرها من كل سوء.
ومن ذكر اسم ربه بقلبه ولسانه ، فصلى الصلوات الخمس التي فرضها الله ـ تعالى ـ عليه. وأضاف إليها ما استطاع من نوافل وسنن.
وعبر ـ سبحانه ـ بقوله : (قَدْ أَفْلَحَ) ليجمع في هذا التعبير البليغ ، كل معاني الخير والنفع ، لأن الفلاح معناه : وصول المرء إلى ما يطمح إليه من فوز ونفع. وجاء التعبير بالماضي المسبوق بقد ، للدلالة على تحقيق هذا الفلاح بفضل الله ـ تعالى ـ ورحمته.
وقد اشتملت هاتان الآيتان على الطهارة من العقائد الباطلة (تَزَكَّى) وعلى استحضار معرفة الله ـ تعالى ـ (وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ) وعلى أداء التكاليف الشرعية التي على رأسها الصلاة (فَصَلَّى).
وهذه المعاني هي التي وصلت صاحبها إلى الفلاح الذي ليس بعده فلاح.
وقوله ـ تعالى ـ : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) الإضراب فيه عن كلام مقدر يفهم من السياق.
والمعنى : لقد بينت لكم ما يؤدى إلى فلاحكم وفوزكم .. ولكنكم ـ يا بنى آدم ـ كثير منكم لم يستجب لما بينته له ، بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا ، بأن تقدموا زينتها وشهواتها ومتعها .. على ما ينفعكم في آخرتكم ، والحال أن ما في الدار الآخرة من نعيم ، خير وأبقى من حطام الدنيا ، لأن الدنيا ومتعها زائلة ، أما الآخرة فخيرها باق لا يزول.
والخطاب لجميع الناس ، ويدخل فيه الكافرون دخولا أوليا ، وعليه يكون المراد بإيثار الحياة الدنيا بالنسبة للمؤمنين ، ما لا يخلو منه غالب الناس ، من اشتغالهم في كثير من الأحيان بمنافع الدنيا ، وتقصيرهم فيما يتعلق بآخرتهم.
ويرى كثير من العلماء : أن الخطاب للكافرين على سبيل الالتفات ، ويؤيد أن الخطاب للكافرين قراءة أبى عمرو بالياء على طريقة الغيبة.
أى : بل إن الكافرين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، مع أن الآخرة خير وأبقى.
ثم ختم ـ سبحانه ـ السورة بقوله : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أى : إن هذا الذي ذكرناه من فلاح من تزكى ، ومن إيثاركم الحياة الدنيا على