ولقد أنجز الله ـ تعالى ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم وعده ، حيث أعطاه شريعة سمحة ، ومنحه أخلاقا كريمة ، من مظاهرها أنه صلىاللهعليهوسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ، ودعا أتباعه إلى الأخذ بمبدأ التيسير ، فقال : «يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا ..».
فهاتان بشارتان عظيمتان للرسول صلىاللهعليهوسلم. أولاهما : تتمثل في إلهامه الذاكرة الواعية الحافظة لما يوحى اليه. وثانيتهما : توفيقه صلىاللهعليهوسلم إلى الشريعة اليسرى ، وإلى الأخلاق الكريمة وإلى الأخذ بما هو أرفق وأيسر في كل أحواله.
ثم أمره ـ تعالى ـ بدوام التذكير بدعوة الحق بدون إبطاء أو يأس فقال : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى. وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى. ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى).
والفاء في قوله (فَذَكِّرْ) للتفريع على ما تقدم ، والأمر مستعمل هنا في طلب المداومة على التذكير بدعوة الحق التي أرسله ـ سبحانه ـ بها ، والذكرى : بمعنى التذكير.
والمعنى : إذا كان الأمر كما أخبرناك ـ أيها الرسول الكريم ـ فداوم على تذكير الناس بالهدى ودين الحق ، واتبع في ذلك الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن ، واهتم في تذكيرك بمن تتوقع منهم قبول دعوتك ، وأعرض عن الجاحدين والمعاندين والجاهلين.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : كان الرسول صلىاللهعليهوسلم مأمورا بالذكرى نفعت أو لم تنفع .. فما معنى اشتراط النفع؟ ..
قلت : هو على وجهين : أحدهما. أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم ، وما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلا عتوا وطغيانا ، وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يتلظى حسرة وتلهفا ، ويزداد جدا في تذكيرهم ، وحرصا عليه ، فقيل له : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ. فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وذلك بعد إلزام الحجة بتكرير التذكير.
والثاني : أن يكون ظاهره شرطا ، ومعناه ذمّا للمذكّرين ـ بتشديد الكاف المفتوحة ـ وإخبارا عن حالهم ، واستبعادا لتأثير الذكرى فيهم ، وتسجيلا عليهم بالطبع على قلوبهم ، كما تقول للواعظ : عظ المكاسين إن سمعوا منك ، قاصدا بهذا الشرط ، استبعاد ذلك ، وأنه لن يكون .. (١).
وقال الإمام الرازي ما ملخصه : جاء التعليق بالشرط في قوله ـ تعالى ـ : (فَذَكِّرْ إِنْ
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٧٣٨.