أهل اليقظة فإنهم يخافون المكر في جميع الأحوال إذ السوابق جارية والعواقب خفية.
وقال أيضا : من لا يرى الكل تلبيسا كان المكر منه قريبا.
قال أبو الخير الديلمي : كنت يوما عند الجنيد فارتعدت فرائصه ، وتغير لونه وبكى ، وقال : ما أخوفني أن يأخذني الله ، قال له بعض أصحابنا : نتكلم في درجات الراضين وأحوال المشتاقين ، قال : يا بني إياك أن تأمن مكر الله ، فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.
قال سهل : المكر تدبير الله بسابق العلم فلا ينبغي لأحد أن يأمن مكره ، وذلك أن من يأمن مكر الله بدفع القدرة ، ولا يجوز أن يخرج نفسه من قدرة الله عليه.
وقوله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) كأن هذه الآية أنزلت في شأننا مع هؤلاء البطالين الذين سلكوا الطريقة وأخطأوا بما وجدوا فيها من الجاه والمال ، ونقضوا عهد الإرادة واشتغلوا بالرياسة وخانوا في الطريقة وأنكروا على المشايخ ، أعمى الله قلوبهم ما أشد إنكارهم على أهل الحق وما أشد خروجهم عن طريق الحق ، جمعهم الله في الاستدراج وطردتهم عن أنوار المنهاج كأنه تعالى عاتب الجهور حيث لم يفوا عهد الأزل ، حيث وقف الكل على ما وجدوا ، وهكذا شأن ما ألتفت في مشاهدة المحبوب إلى غير المحبوب ، ولكن هم معذورون لأن الحدثان لا يستثقل أثقال محامل الكبرياء ومطايا القدم ، والبقاء في أودية الفناء.
قال الجنيد : أحسن العباد حالا من وقف مع الله على حفظ الحدود ، والوفاء بالعهود. وقال الله تعالى : (وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) (١).
قال الأستاذ : نجم في العذر طارقهم ، وأقل من سماء الوفاء شارقهم فعدم أكثرهم رعاية العهد وحق لهم من الحق قسمة الرد والصد.
ويقال : شكا عن أكثرهم إلى أقلهم ، فالأكثرون من رده القسمة ، والأقلون من قبلتهم الوصلة.
(حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦)
__________________
(١) وذكر في أول التي تليها تنازعهم في الأنفال تحذيرا لهم من أن يكونوا من الأكثر المذمومين في هذه ، هذا بخلاف المقصود من سياق قصص بني إسرائيل في البقرة ، فإنه هناك للاستجلاب للإيمان بالتذكير بالنعم ، لأن ذلك في سياق خطابة سبحانه لجميع الناس بقوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] وما شاكله من الاستعطاف بتعداد النعم ودفع النقم والله أعلم. نظم الدرر (٣ / ٢٦٥).