يعرفهم مكان المكر هناك بأن يعملوا أن ما وجدوا منه عندما لم يجدوا منه كقطرة في بحار ، وذلك من حلاوة مباشرة أنوار القدم والبقاء في أسرار أرواحهم وقلوبهم وعقولهم ، ولو أطلعوا على حقائق مكره ، حيث حجبهم به عنه لذابوا من الحياء تحت أنوار سلطان كبريائه وعظمته ، ومكره بأهل الاتحاد أن يريهم جلاله وجماله في مرآة قلوبهم ، فيرونه بحسن الأزل وجمال الأبد بنعت فنائهم فيه ، فيبقيهم به من حد الفناء ، فيرون أنفسهم كأنهم هو من حدة مباشرة الصفة بالفعل ، فيتحجب عليهم ويبقيهم في حلاوة تأثير أنوار الصفات فيرون أنفسهم في محل الربوبية فيدعون هناك بالأنائية (كالحسين بن منصور) و (أبي يزيد) ـ قدس الله روحهما ـ فهناك أخفى المكر وألطف الاستدراج ، ولولا فضله وكرامته عليهم لأبقاهم فيما هم فيه ولكن بلطفه الخفي وإنعامه الجلّي أخرجهم من ذلك ، وأغرقهم في بحار عظمته حتى أقروا بأنهم ليسوا على شيء منه ، وأنهم في أول درجة من عبوديته.
ألا ترى إلى قول أبي يزيد في آخر عمره حيث قال : ما ذكرتك إلا عن غفلة ، ولا عبدتك إلا عن فترة.
وإلى قول حسين بن منصور في وقت قتله قال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ، وهذا لطف الله نبينا صلىاللهعليهوسلم حيث حرسه من هذا المكر الخفي في مقام رؤية الأعلى وشهود قاب قوسين وأدنى بقوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (١) ، ذوّقه طعم الربوبية وأوقفه في مقام العبودية ، حتى افتخر بعبوديته بعد وجدان ربوبيته بقوله : «أنا العبد لا إله إلا الله» (٢) ، وكل صنيع منه لطيف بأوليائه أن مكر بهم وأن لم يمكر بهم ، ومن نجا من مكره والكل في قبضة العزّة متحيرون ، وكيف يأمن به منه من يعرفه بالربوبية ويعرف نفسه بالعبودية.
حكي أن رجلا سأل الشبلي عن معنى مكر الله ، فأنشد الشبلي بقوله :
أحبّك لا ببعضي بل بكلّي |
|
وإن لم يبق حبّك بي حراكا |
ويسمج من سواك الشيء عندي |
|
فتفعله فيحسن منك ذاكا |
فقال سائل : أسأل عن آيات من كتاب الله ، وتجيبني ببيت شعر فعلم الشبلي إنه لم يفطن ما قال.
فقال : يا هذا مكره بهم تركه إياهم على ما هم فيه.
قال الحسين : لا يأمن من المكر إلا من هو غريق في المكر ، فلا يرى المكر به مكرا ، وأما
__________________
(١) رواه مسلم (١ / ٣٥٨).
(٢) تقدم تخريجه.