وأفهم أن الدعاء مقامات ، فبعضهم يدعوه بلسان الظاهر ، وبعضهم يدعوه بلسان الباطن ، وبعضهم يدعوه بإشارة العقل ، وبعضهم يدعوه بإشارة القلب ، وبعضهم يدعوه بإشارة الروح ، وبعضهم يدعوه بإشارة السر ، نعت أهل الظاهر التضرع ، ونعت أهل الباطن الافتقار والتخشع ، ونعت أهل العقل الفكر ، ونعت أهل القلب الذكر ، ونعت أهل الروح الشوق ، ونعت أهل السرّ الفناء ، يدعونه بالإذن ولا يكون الإذن في الدعاء إلا في مقامين مقام القبض ومقام البسط ، الدعاء في مقام القبض بنعت العبودية ، والدعاء في مقام البسط الحكم والانبساط من إدراك مباشرة صولة الربوبية ، ولا بدّ للعارفين من هذين المقامين ، والدعاء على أحوال شيء ، دعاء أهل البلاء لكشف الهموم ، ودعاء أهل النعمة لكشف الوجود ، ودعاء المحبين لتسلّي القلوب ، ودعاء المشتاقين للبلوغ إلى الوصول ، ودعاء العاشقين لنيل المأمول ، ودعاء العارفين لوجدان البقاء ، ودعاء الموحدين لمحوهم في الفناء ، وفيه أنس المستأنسين وتضرع العارفين وبهاء المحبين وزيادة قرة عيون الموحدين ، ما أطيب ألحانهم في السجود لكشف مشاهدة الموجود ، وما أحلى روح طيب مناجاتهم بالعبرات وحركات ضمائرهم بالزفرات.
قال الأستاذ : ما أخلص عبد في دعائه إلا روح الله سبحانه في الوقت قلبه ، ثم حذرهم عن الرجوع من الأعلى إلى الأدنى ، ومن متابعة الحق إلى متابعة النفس من تخريب أرض القلب بمسحاة الهوى بعد إصلاحها بصفاء المراقبة والحضور والمشاهدة بقوله : (وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها).
قال الأستاذ : إمهال النفس عن المجاهدات والرجوع إلى الحظوظ بعد القيام بالحقوق ، فساد الأرض بعد إصلاحها فيه ، ثم زاد سبحانه في آداب الدعاء وقرن بالتواضع والإخلاص فيه مقام الخوف والرجاء بقوله : (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : أدعوه بوصف الإجلال في رؤية جلاله ، وبنعت البسط في رؤية جماله فإن حقيقة الدعاء في الشهود الرجل في العبودية لمعرفة الربوبية ، والسرور من رجاء الوصول إلى المقصود.
وأيضا : (وَادْعُوهُ خَوْفاً) من إطلاعه على جريان كل مأمول سواه في القلب ، أي خافوا من طيران ذكر الحدث في رؤية القدم ، (وَطَمَعاً) معناه الطمع في مقام من قربه أشرف من مقام الدعاء ؛ لأن الدعاء وسيلة ؛ فإذا حصل الوصول انقطع الوسيلة ، وأيضا خوفا من رد الدعاء ، وطمعا في استجابة الدعاء ، وبيّن تعالى أن من كان هذا وصفه يكون من المحسنين