يكون أحدهما طالب الأخر لأن وصفه الحضور والغيبة من خفاء التجلّي ، وبدأ به الليل النفس ، والنهار القلب ، والشمس الروح ، والقمر العقل ، والنجوم المعلوم مسخرات في أسماء الملكوت ، وهو الجبروت بأمره بقدرته الكاملة وعزّته الشاملة ومحبته القديمة التي تؤلف أرواح القدسية إلى مشاهد الأزلية ، ثم أن الله سبحانه أضاف الكل إلى أمر مشيئته ونفاذ قدرته وأخرج الجميع من تكلف الحدثان وعلمه الأكوان بقوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) الخلق فعله ، والأمر صفته الخلق في الأشباح ، والأمر في الأرواح بنور الخلق سبب العقول وحيرها من أدرك كنه الآيات ، ويتجلّى الأمر جذب القلوب إلى عالم الصفات وعشقها بجمال الذات ، ثم أثنى على نفسه حيث تقتصر الإفهام عن وصف صفاته ، وتقصر الألسن عن البلوغ إلى مدح ذاته بقوله : (تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : تقدس عن كل ما يجري على خواطر خلقه رب العالمين رب الجميع بظهور صفته في خلقه ، ورب العارفين بظهور ذاته في صفته.
قال الأستاذ : في هذه الآية تعرف إلى الخلق بآياته الظاهرة الدالة على قدرته وهي أفعاله وتعرف إلى الخواص منهم بآياته الدالة على نصرته التي هي أفضاله وإقباله ، وظهر لأسرار خواص الخاص بنعوته الذاتية التي هي جماله وجلاله ، فشتان بين قوم وبين قوم.
قال الواسطي في قوله : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) : والأمر إذا كان له فمنه وبه وإليه ؛ لأن الأمر صفة الأمر ، ولما عرفهم إعلام الربوبية أمرهم بخالص العبودية ، وأدبهم فيها بأحسن التأديب بقولها : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) فإذا عرفتم نعوت الكبرياء وجلال العظمة وعزّ القدم والبقاء ، كونوا في رؤية هذه الصفات عند احتياجكم إلينا بنعت الفناء بحيث لا طلع على أسراركم نفوسكم ، فإن دعوة المضطر تقع على سامع الغيوب حين هاجت بوصف اللطف من لسان القلوب ، وأن أصفى الوقت في التضرع ودعوة الخفية وذكر الخفي الذي وصفه عليهالسلام بالخيرية ، حيث قال : «خير الذكر الخفي» (١).
وقال أبو عثمان : التضرع في الدعاء أن لا تقدم إليه أفعالك وصلواتك وصيامك وقراءاتك ، ثم تدعو على أثره إنما التضرع أن تقدم افتقارك وعجزك وضرورتك وفاقتك وقلّة حيلتك ثم تدعو بلا علّة ولا سبب فترفع دعاءك.
وقال الواسطي : تضرعا بذل العبودية وخلع الاستطالة خفية ، أي : أخف ذكرى صيانة عن غيري ، ألا تراه بقول : «خير الذكر الخفي» (٢).
__________________
(١) رواه ابن حبان (٣ / ٩١).
(٢) تقدم في سابقه.