ذكر سبحانه امتنانه على المؤمنين بما خاطبهم بمجموع كلامه القديم الذي أبنا ما عنده لهم من مدخور السعادات ، وسني الكرامات ، وعظيم الدرجات ، ودعاهم به إلى أعمال ذكية ، وأحوال شريفة ، ومقامات عزيزة ، وعرّفهم به بأسمائه ونعوته وصفاته وذاته تعالى وأفعاله في انتظام صنائعه ، وإعلام قدرته وبدّلهم به إلى المعرفة كل صفة من صفاته القديمة التي معرفتها معرفة ذاته تعالى ، عرّف نفسه به للعارفين ، وفتح بمفاتيحه كنوز غيبه للروحنيين ، وكشف قناع الجهل بأنواره عن قلوب الغافلين والعالمين ، وجذب بلطائفه قلوب المحبين والمشتاقين والعاشقين إلى مشاهدته ووصاله ، ورتّب فيه مقامات العبودية ومعارف الربوبية ، وذلك صدر منه بسابق علمه وقديم حكمه ، ويهدي به إلى نفسه قلوب المؤمنين به ، وذلك منه رحمة كافية للعموم والخصوص ، وكان رحمته سبقت في الأزل لمن خاطبه سبحانه بنعمة هدايته به إليه ، وأي نعمة أعظم من إنزاله كلامه إلينا الذي يعتقنا من رق النفوسية ، ويخلصنا من شهوات الشيطانية ، ويهدينا بنور إلى أنوار الربانية ، والحمد لله الذي أمنن علينا بفواتح أنعامه ولطائف إكرامه واصطفانا بخطابه ، وجعل استماعنا محل استماع كلامه وقلوبنا أوطان بيانه وأسرارنا أوعية أنوار سلطانه وأرواحنا خزائن عرفانه ، وعقولنا مشاهد برهانه وأبداننا مساقط شرائعه من قرآنه.
قال بعضهم : أنزل الله كتابا فيه هدى من الضلالة ، ورحمة من العذاب ، وفرقانا بين العدو والولي ، لا يعلم معانيها إلا المؤمنين بمتشابهه والعاملون بأحكامه والتالون به أناء الليل والنهار فيه الفلاح لمن طلب الفلاح ، والنجاة لمن رام النجاة ، لا يهلك عليه إلا هالك ولا ينجو به إلا ناجي ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ) (١) ولمّا عرّف نفسه بخطابه للعارفين ، عرّف نفسه أيضا لهم بأفعاله النورية ، وبرهانه القدرتية ، وآياته الصفاتية ، وأعلامه الذاتية ، بقوله سبحانه : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ).
فقد نبّه عن عين الألوهية صريحا حين قال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) خاطبهم بالتربية ؛ لجذب قلوبهم بالمحبة ثم أشار إليهم بالألوهية لفناء الحدث في القدم ثم صرفهم من المحو إلى الصمود ، ومن الحضور إلى الغيبة ، بقوله الذي أشارة (إِنَّ رَبَّكُمُ) عبارة الأولى للبسط ، والثاني للقبض ، ثم صرفهم من الصفات إلى الأفعال كما صرفهم من الذات إلى الصفات كي
__________________
(١) أي : بيّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ ، مفصلة (على علم) أي : عالمين بوجه تفصيله حتى جاء في غاية الإتقان. البحر المديد (٢ / ٢٥٤).