بإرادتك السابقة في غوائك ، أي : لأقعدن لهم صراطك المستقيم كما قال : (فَبِعِزَّتِكَ) [ص : ٨٢] ، أي : بما ألبستني لباس قهرك في الأزل أقدر أن أقعد في طريقهم المستقيم ، وإلا فلا أقدر أن آمر بهم في وراء العالم بقوة قهرك في الأزل ، أوسوس في صدورهم التي هي طريقك المستقيم الذي يسألك فيه عساكر أنوار تجلاك.
في قوله : (لَهُمْ) نكتة عجيبة ، أي : لأقعدن لهم لا عليهم ، فإن وسوستي لهم تزيد شرّا فهم عند إحساني عن صدورهم بنعت إياسي عن الظفر بهم ، ويتمازج هناك إيمانهم وإيقانهم عن نعوت الاضطراب وطوارق الوسواس وغبار الشك.
ألا ترى إلى قوله عليهالسلام حين شكاه أصحابه عمّا وجدوا في صدورهم من الوسوسة ، فأشار عليهالسلام بقوله : «ذاك صريح الإيمان» (١).
قال محمد بن عيسى الهاشمي : لو نجا إبليس بشيء لنجا برؤيته القدرة عليه والإقرار على نفسه بقوله : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي) [الحجر : ٣٩] ، ثم زاد الجرأة بقوله : (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ) أي : من بين أيديهم من جهة النفس والهوى ، ومن خلفهم من جهة الشهوة والمنى ، وعن أيمانهم من طريق الدعوى ، وعن شمائلهم من طريق إظهارهم الشكوى في البلوى.
وأيضا : من بين أيديهم من طريق الطاعات ، ومن خلفهم من طريق رؤية الأعواض ، وعن أيمانهم من طريق العلم ، وعن شمائلهم من طريق الجهل.
وأيضا : من بين أيديهم من طريق القلب ، ومن خلفهم من طريق العقل ، وعن أيمانهم من طريق الروح ، وعن شمائلهم من طريق الصورة والنفس.
وأيضا : من بين أيديهم من طريق الإسلام ، ومن خلفهم من طريق الإيمان ، وعن أيمانهم من طريق العرفان ، وعن شمائلهم من طريق الإيقان ، ولم يذكر الفوق والتحت ؛ لأن التحت موضع الفناء في العبودية عند السجود الذي يوجب القربة ، وذلك السجود شهود والشهود محل رعاية الحق ، ولا يقدر أن تمر على باب رعايته أحد دونه ، والفرق محل الكشف ، والمشاهدة وارد التجلي وظهور سبحات وجه القدم ، ولو دنا منه جميع الشياطين من العرش إلى الثرى بقدر رأس إبرة لاحترقوا في أقل لمحة.
قال أبو عثمان المغربي : إن الشيطان يأتي الإنسان عن يمين الطاعات من بين يدي الأماني والكرامات ، ومن خلفه بالضلالات والبدع ، ومن يساره بالشرك ، فإذا جرى بعبد
__________________
(١) رواه مسلم (١ / ١١٩).