إدراك الحقيقة ، وانصرفوا عن باب الربوبيّة من هجوم إجلال سطوات العزّة عليهم ، فأحالهم الحق جلّ وعزّ إلى آدم باقتباس العلم والأدب في الخدمة ؛ حتى يوصّلهم بعلم الصفات إلى ما لم ينالوا بالعبادات ؛ لأنهم عبدوا الله بالجهل ، ولم يعرفوه حق معرفته ، وهو عرف الله بحقيقة العلم الذي علّمه من العلوم اللدنية ، لا جرم أنه أستاذهم في علم المعرفة ، وإن سبقوا منه بالعبادة.
وأيضا لم يرى في الكون محبّا صافيا كما يريد ، فجعل آدم ؛ لأجل المحبّة ؛ لأنه خلق الملائكة ؛ لأجل العبادة ، فعرفهم عند المشورة مع الملائكة خلّوهم من المحبّة ؛ بشغلهم عنه بالعبادة.
وأيضا أراد الملائكة أن يروا الله تعالى ، فعلم الحق ضعفهم عن النظر إليه ، فجعل آدم لهم حتى يرونه ؛ لأن الله تعالى خلقه بيده ، وصوّره بصورته ، ووضع فيه مرآة روحه ، إذا نظروا فيها تجلّى لهم الحق تعالى.
وأيضا ليس في العالم شاهد جميل يحبّه الحق ، فخلق بيده ، وألبسه صفة من صفاته ، وأحبّه بصفاته ؛ لأجل صفاته.
وأيضا أراد الحق أن يظهر لهم نفسه في حقائق الصنع ، فانصرفوا من الحق إلى الخلق.
وقيل : عصوا الله تعالى باعتراض الحق في مذمّة آدم ، ومدح أنفسهم لمّا قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ؛ لأن الله تعالى سمّى آدم خليفة في بدأ الخطاب ، والخليفة لا يحيف ولا يجور ، فجهلوا من وصفه الله تعالى بخلافته ، وعلّمه بخصائص محبته ، ومدحه بالخلافة ، وهم عيّروه بالفسق والجهالة من سوء الظن ، وقلّة الأدب ، فكشف الله تعالى نقاب القدس عن وجه آدم ، وأنورّ بجماله العالم ، فخجلوا من دعواهم ، واعترفوا بجهلهم ، فقالوا : (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا).
وقولهم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) : تحرّكوا من حيث الأعمال ، وشأن آدم من حيث الأحوال برؤية الفعل عن مشاهدة الاصطفائية التي سبقت بنعت الحسن لآدم.
وأيضا تعرّضوا بنعت المعبودية عند سرادق العظمة منه على الربوبية ، فأسقطهم الله عن مقام حقيقة المعرفة ، وأحوجهم باقتباس علم أحوالهم عن آدم.
قال بعضهم : لما شاهدوا أفعالهم وافتخروا بها ، ردّ الله تعالى وجوههم عنه إلى آدم ، وأمرهم بالسجود له ؛ إعلاما أن العبادة لا تزن عنده شيئا.
وقال بعضهم : من استكبر بعلمه ، واستكبر بطاعته كان الجهل وطنه ؛ ألا تراهم لما قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ألجأهم إلى أن قالوا : (لا عِلْمَ لَنا).