الخلق ، لكن أدخل عشاق الملائكة في مقام المحبة والعشق فتجلّى لهم بنور جماله من مرآة وجه آدم عليهالسلام ؛ ليفتر قلوبهم بلذّة المحبة والعشق ، ولو أبرز لهم أنوار صفاته وذاته صرفا احترقوا في أول ما بدا من نور الألوهية ، ولم يسجد إبليس لأنه كان محجوبا من ذلك الجلال والجمال بنظرة إلى نفسه وقياسه بجهله ، وكذا من نظر من الحق إلى النفس احتجب بها عن رب النفس.
قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) أي : لم يكن من أهل شهود الصفات ورؤية جلال الذات.
قال أبو حفص : عرف الملائكة استغناءه عن عبادتهم ، قال : (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ، ولو كان سجودهم يزن عنده مثقال ذرة لما أمرهم بذلك ولا صرف وجوههم إلى آدم عليهالسلام ، قال : سجود الملائكة وجميع خلقه لا يزيد في ملكه ؛ لأنه عزيز قبل أن خلقهم ، وعزيز بعد أن يفنيهم ، وعزيز حين يبعثهم ، ثم غيّر إبليس بامتناعه عن السجود لآدم عليهالسلام وقلّة عرفانه ، شرفه بقوله : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) أي : أي شيء يمنعك من متابعة أمري ، ولم يبق في البين غيري ، أي : يمنعك من ذلك قهر سابق مني عليك ، وخذلان وارد في المشيئة عليك ، وإلا فمن الحدثان بامتناعها عن متابعة أمري ، وليس لها قدرة ولا مشيئة ، وكلها عاجزة في قبضة قهري ، ومن سبق له الشفاء لا يسبق بالمراد ، وإن كان جميع عبادة الثقلين مصحوبا معه في استباقه إلى الحضرة.
قال الواسطي : من استصحب كل نسك في الدنيا والآخرة والجهل فطنه ، والاعتراض عرضه ، والبعد من الله سببه ، لا يقرب منه ؛ لأن العبادات تقطع عن الرعايات ورؤية النسك رؤية الأفعال والنفوس ، ولا متوثب على الله أشد ممن طالع نفسه بعين الرضا ، فلمّا كلم الله إبليس بكلام التعبير وقهر السلطنة ألبسه من خطابه قدرة في الجواب ، ولولا إلباس الحق إياه لكان مبهوتا عند وارد قهر الخطاب عليه ، ولم ينطق بجواب الأمر ولكن أجابه إجبارا لا اختيارا ، وذلك قوله تعالى : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ). لمّا رأى المعلون لباس قهر خطاب الحق عليه قال بقوته : (أَنَا) ، ولولا ذلك لما قال : (أَنَا) ، وأين أنائيته وكان هباء في أنائية الحق ، نظر المعلون إلى جوهر النار الصادر من قهر العدم فانتسب إلى قهر القدم ، قال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ولم ينظر بنظر المعرفة إلى الطين الذي صدر من لطف القدم ورحمة الأزلية ، النار من غضبه ، والطين من رحمته ، والرحمة سابقة على الغضب ؛ لقوله سبحانه : «سبقت رحمتي غضبي» (١).
__________________
(١) أي : يد تنزيه وتشبيه ، وإن شئت قلت يد وجوب وإمكان ، أو يد بخلاف سائر العالم ملكا وفلكا.