ولقلوبهم معايش الذكر ، ولعقولهم معايش التفكر ، ولأرواحهم معايش روح رؤية ظهور جلاله في ملكوت الأرض من كل زهرة وحضرة ؛ لعرفان المنعم القديم بنعت عجزهم في شكره ، ثم زاد امتنانه عليهم بأنه تعالى أجادهم بأظرف الخلق وألطفه وأحسن الصور وأكرمها ، بقوله : (وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) أي : خلقنا أشباحكم جمعا في آدم عليهالسلام ثم صورناكم في حواء ، وأيضا خلقنكم هياكل وصورناكم أرواحا ، وأيضا خلقناكم بالأفعال وصورناكم بالصفات ، وأيضا خلقناكم خلقكم بالأمر ، ثم صورناكم بظهور تجلي الصفات لكم ، فوقع الخلق بوقوع الأمر وترتيب الصور بوقوع تجلي بروز الصفات ، فتكونت الصور بنعوت الصفات ، وتكونت الهياكل بنعوت الأفعال ، وتكونت الأرواح من تجلّي الذات ، فيكون الجميع صادرة من العدم بنعت القدم.
ألا ترى كيف أشار عليهالسلام فيه إلى سر المتشابهات حيث قال : «خلق الله آدم على صورته» (١) ، فجعل للأشباح طريق العبودية ، وجعل للأرواح طريق عرفان الربوبية ، وجعل للعقول طريق الملكوت ، وجعل للقلوب طريق الجبروت ، وجعل للأسرار طريق القدم والبقاء.
قال بعضهم : أبدع الله الهياكل وأظهرها على أخلاق شتى ، وصور مختلفة ، وجعل لكل شيء منها عيشا ، فعيش القلوب في الشهود ، وعيش النفوس في الوجود ، وعيش العبد معبوده ، وعيش الحواس الإخلاص ، وعيش الآخرة العلم ، وعيش الدنيا الجهل والإمارة والاغترار بها.
ولمّا صور الجميع في آدم عليهالسلام بصورة آدم عليهالسلام وصور آدم عليهالسلام بصورة الصفات المنزّهة عن المشابهة بالحدثين هاهنا علما لا رسما ، وهاهنا عشقا لأشباهها أحدية وتوحيد وجمعا ، وتفرقة لا تشبيها ولا تعطيلا ، زينة بنور الصفات ونعت الأفعال ، ثم كساه أنوار الذات ، ثم قال للملائكة : اسجدوا له ، بقوله تعالى : (ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ؛ لأنه قبلة تجلّي الصفات والذات ، وهو مصور بصورة الملك في الملكوت قبل موضع استواء أنوار الذات ، وصورته موضع استواء أنوار الصفات ، وهيكله موضع استواء أنوار الأفعال ، وروحه موضع استواء أنوار المحبة ، وسره موضع استواء أنوار العلم والمعرفة.
(اسْجُدُوا لِآدَمَ) فإنه لكم واسطة في العبودية لا معرفة الربوبية واسطة في العبادة ، فإنه يليق بكم ، فإن في عبادتي لا يليق الكون ومن فيه ، وما فيه أظهر استغناؤه عن عبودية
__________________
(١) رواه البخاري (٥ / ٢٢٩٩) ، ومسلم (١ / ١٩٩).