فلما أراد كشف الكلى وإجراء خطاب الأزلي يجمع أكابر أهل القرب من المرسلين والنبيين والملائكة المقربين ، وذلك يوم القيامة يوم العرض الأكبر ، حيث يتمتع العارفون بجمال الحق وجلاله وقربه ووصاله ، والقيامة بلد أحياء الله هناك يستأنسون به أبدا ، ويحولون على مراكب النور في ميادين السرور ، هناك مقامات ، ففي مقام لهم بقاء ، وذلك من بسط الله بساط عطايا المشاهدة ، وفى مقام لهم فناء ، وذلك من تراكم عساكر سطوات العظمة ؛ حيث يظهر رداء الكبرياء وإزار العظمة ، وفي ذلك المقام يضمحل الحدثان وما فيها في عزّة القدم ، فيفنيهم ساعة بالجلال ، ويبقيهم ساعة بالجمال ، ويخاطبهم ساعة باللطف ، وساعة بالقهر ، ليعرفهم طرائق كشوف الألوهية بنعت المباشرة ، ومن ذلك الخطاب قوله : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦].
وأيضا قوله سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) عرفهم بخطابه معهم عجز العبودية في الربوبية ، وفناء الحدث في القدم عيانا بعد الخبر ، خاطبهم بعد إحاطته بجميع ذرّات الكون وبعد علمه الشامل بجريان الحدثان من الأزل إلى الأبد ، ومقصوده تعالى منهم إظهار ما أخبره بما جرى على الخلق في كتابه ، كيف توافق الخبر بالمعاينة ، وهو تعالى منزّه عن الجهل بشيء من العرش إلى الثرى ، ومعنى قول سيد المرسلين : لا علم لنا بما تريد منا وبما تريد منهم ، ولا علم لنا بما أجريت في الأزل علينا ، ولا علم لنا بما في أنفسنا فضلا بما في نفسك ، ولا علم لنا إلا علما مخلوقا مستفادا من علمك وتعليمك إيانا ، وإذا بهتوا وتاهوا وتحيروا وتلاشوا في كشف عظمته طاشت أشباحهم وطابت أرواحهم ، ولم يطيقوا أن يتكلموا بما في ضمائرهم من صولة الخطاب.
وأيضا : استحيوا من إظهار ما أجابهم قومهم عند جلاله وعظمته.
وأيضا : أي : لا علم لنا فيما وضعت في أسرارهم ؛ فإنك تعلم الغيب ، وذلك قوله : (إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ).
قال الواسطي : أظهر ما منه إليهم كلهم من تولية ، فقالوا : كيف يقول فعلت الأمم أو فعلنا! عندها كلت الألسن إلا عند العبادة عن الحقيقة.
وقال : خاطبهم لعلمه بأنهم يحملون ثقل الخطاب ، وأشد ما ورد على الأنبياء في ثبوتهم حمل الخطاب على المشاهدة ، لذلك لم يظهروا الجواب ، ولم ينطقوا بالجواب إلا على لسان العجز ، لا علم لنا مع ما كشفت لنا من جبروتك.
وقال الجنيد : رفق بهم فلم يفقهوا ، ولو فقهوا وعلموا لماتوا هيبة ، لورود جواب الخطاب.