آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا).
وقال لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن لأنفسكم عليكم حقّا ، فصوموا وأفطروا ، وقوموا وناموا ، فإنّي أقوم وأنام ، وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم والدسم ، وآتي النساء ، ومن رغب عن سنّتي فليس منّي» (١) ، بيّن ذلك ألا يجوز لأهل الحقائق والمشاهدات أن يرجعوا إلى مقام البدايات.
وتصديق هذه المعاني الآية الثانية قوله تعالى : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) الحلال ما وصل إلى المعارف من خوان الغيب بلا كلفة إنسانية ، والطيب ما يقوّي قلبه في شوق الله وذكر جلاله بالتسرمد.
قال سهل في قوله : (لا تُحَرِّمُوا) : هو الرفق بالأسباب من غير طلب ، ولا إشراف نفس ، وقد يبدأ الرفق بالسبب لأهل المعرفة على الظاهر وهم يأخذونهم من المسبب بالحقيقة.
قال بعضهم : رزقه الذي رزقك ما هو من غير حركة منك ولا استشراف ، وهو الطلب الحلال يحلك محل الدعة ويطيب قلبك يتناوله.
وقال الأستاذ : ممّا أباحه من الطيبات الاسترواح إلى نسيم القرب في أوطان الخلوة ، وتحريم ذلك أن تستبدل تلك الحال بالخلطة دون العزلة ، والعشرة دون الخلوة ، وذلك هو العدوان العظيم ، والخسران المبين ذكره في تفسير قوله : (لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ).
وقال في قوله : (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً) : الحلال الصافي أن يأكل ما يأكل على شهوده ، فإن نزلت الحالة عن هذا فعلى ذكره ، فإن الأكل على الغفلة حرام في شريعة الإرادة ، ولي في الحلال والحرام لطيفة ، وهي أن الحلال الذي يراه العارف في خزانة القدرة ، فيأخذ منها بوصف الرضا والتسليم ، والحرام ما قدر بغيره وهو يجتهد في طلبه لنفسه لقلّة عرفانه بالمحذر في المقدر ، وهذا العلم غير موازن في العقول ، وما لم يكن مرضيّا في الشريعة لم يكن مرضيّا في المعرفة ، ولمّا قوي العباد بنسائم لطفه وغذّاهم من موائد قربه ، ورماهم بشهيات نعمه ، دعاهم بعد ذلك إلى طاعته وطاعة رسوله ؛ لئلا يسقط عليهم آداب الحضرة وعلامات العبودية وظرافة الخدمة ، وحذّرهم في كتابه من مخالفته طرفة عين بقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا) طاعة الله تكون في رؤية هيبته ، وطاعة الرسول تكون بحلاوة محبته ، والحذر إخراج الحدث عن وصف العدم ، وحبس الأرواح في منازل الإجلال ، أي : استقيموا في المعاملات ، واحذروا عن رؤيتها ورؤية أعواضها حتى لا تحتجبوا
__________________
(١) رواه الطبري في التفسير (٧ / ٩) بنحوه.