وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦))
قوله تعالى : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ) وصف الله سبحانه أهل خالصة الإيمان بحسن الإصغاء عند سماع الذكر والخطاب ؛ حيث شاهد عقولهم بشواهد الكتاب بنعت الانبساط ، وشاهد قلوبهم حلاوة الخطاب ، وشاهد أرواحهم مشاهد جمال الأنبياء ، وشاهد أسرارهم أنوار الصفات بوصف إدراك لطائفها ورؤية نوادر عجائبها ، فوردت سواقي بحار علومها ، وشربت مفرحات عجائب مكنونها ، ورأت غرائب تجلّي عرائس غيبها ، وهاجت إلى طلب معادنها بنعوت شوقها إلى جمال المخاطب ، فلمّا أدركته عرّفته بالألوهية ، وعلمته بالوحدانية ، وعشقته بما رأت من لطيف خطاب معهم وعرفان أسراره فيهم ، فأثرت ما أدركت في الأشباح حتى اضطربت وأدمعت عيونها بدمع الشوق ، واحترقت قلوبها بنيران العشق في مجالس الذكر والسماع ، فعرف الله صدق عرفانهم ومواجيد قلوبهم بالعلامة الصحيحة ، وهي سيلان قطرات الدموع الأسحان بوصف الهيجان على حدود أهل العرفان بقوله : (وَإِذا سَمِعُوا) إلى قوله : (مِنَ الْحَقِ) أي : إذا وجدوا في سماع الخطاب ما فاتوا من لطائف حقائق أسراره وعرفوا حق قدر المخاطب والمخاطب استبشروا بالوجدان ، وحزنوا من ضرر الفقدان ، وهيج فرحهم وحزنهم إلى الشوق والبكاء ، وذلك البكاء من إصابة عيونهم قلوبهم إلى معارف الغيب ومصادفة أرواحهم شواهد القرب ، وربّ قتيل قتله سماع القرآن من غمرات المعرفة وغشيان النور على قلوبهم.
روي عن جنيد قال : كنت قائما أصلي فقرأت هذه الآية (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) [آل عمران : ١٨٥] ، فرددتها مرارا ، فنادى مناد من ناحية البيت كم تردد هذه الآية ، فلقد قتلت بها أربعة نفر من الجن لم يرفعوا رؤوسهم إلى السماء حتى ماتوا من ترديدك هذه الآية.
وكان الصديق رضي الله عنه عنه لا يتمالك بكاءه عند سماع القرآن.
ثم وصف الله سبحانه وتعالى مؤمني أهل الإنجيل بزيادة التصديق بما ذكره في كتابه من قولهم : (يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي : صدقناك بما عرفتنا قدر رسولك وأصحابه ؛ فإنهم شاهدون قربك ووصالك.
قال ابن عطاء في تفسير قوله : (وَإِذا سَمِعُوا) : كادت جوارحهم وقلوبهم أن تنطق بقبول الوحي قبل سماعه في مشاهدة المصطفى صلىاللهعليهوسلم ، ولمّا سمعوا منه لم يطيقوا حمله إلا ببكاء فرح ، أو بكاء حسرة ، أو بكاء دهشة ، أو بكاء حرقة ، أو بكاء معرفة ، كما قال الله : (مِمَّا عَرَفُوا