أفعال الحدث في القدم ، فإنّ صفات القدم منزّهة عن أن تكون محلا لنزول الحدثان فيها ، فإنّ رضاه سبق عنايته للمقبولين ، وإنّ غضبه إرادة وضوح وسم البعد على المطرودين.
قال الواسطي : ما أظهر من الوسم المكروه على خلقه ، جعل ذلك مضافا إلى غضبه وسخطه من غير أن يؤثر عليه شيء ، ألا ترى إلى قول الحكيم كيف يؤثر عليه ما هو أجراه أم كيف يغضبه ما هو أبداه.
قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) وقع اليهود في سخطه الأكبر ؛ حيث اختاروا من يلههم العجل بالإلهية بقوله : (ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ) [النساء : ١٥٣] ، وقوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٣] ، ثم نزلوا من رتبة الحيوان إلى رتبة الجماد بقولهم لموسى عليهالسلام : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ) [الأعراف : ١٣٨] ، ومن علامة همتهم أشار إلى رتبة الإنسان بقولهم : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠] ، فلمّا قطع الله نسبة القدم عن الحدث اشتد غضبهم على أهل التوحيد وذلك قوله سبحانه : (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ) ، ووقع النصارى في سخطه الأصغر ، حيث ارتفعوا بهمتهم في طلب الإلهية إلى عيسى عليهالسلام ؛ لأنه مجمع آيات الله وقعوا في الخيال عند بروز الصفة عن الآية ؛ لقلّة إدراكهم الوحدانية ، لكن بسبب استعدادهم قبول ظهور الآية صاروا أقرب من اليهود إلى قبول الإسلام ، والذي وصفهم الله هاهنا بقوله : (قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً) أنهم بقوا في النصرانية في طلب الحق ، فلمّا لاح الحق لهم خرجوا ممّا دون الحق إلى الحق ، وكانوا صديقين في تجريدهم في طريق الله ؛ حيث وصفهم الله بالقسيسية والرهبانية ، وإذا كانوا في طلب الله أدركهم الله بنور الإسلام والتوحيد ، وما أبقاهم في الشكوك والآراء المختلفة.
ثم زاد في وصفهم بالخضوع والإذعان عند بروز البرهان تصديقا وتعريفا بقوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).
قال بعضهم : جزيات الخدمة أثبت عليهم وإن كانوا على طريق المخالفة ، لكنهم لمّا أظهروا لزوم الباب بدت عليهم آثارها في قبول الجزية وتحليل المناكحات والانتساب إلى التزهد والرهبانية.
(وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) فَأَثابَهُمُ اللهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) وَالَّذِينَ كَفَرُوا