قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) لمّا ظهرت آيات الله في عيسى عليهالسلام وأمه برزت من الآيات أنوار الصفات ؛ فوقع أكابر العشاق في مقام الالتباس ، وخضعوا عند رؤية الربوبية في رؤية الصفات في الآيات ، فغلط المقلدون بما رأوا عليهم شرائط العشق وبراهين عين الجمع ، فكفروا بتفريقهم الألوهية في محل تفرقة الحدثان ، وذلك ما حكى الله تعالى عنهم بقوله : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) أي : عموا عن رؤية حقائق رؤية وحدانية الله التي هي منزّهة عن الاجتماع والافتراق والامتزاج بالناسوت ، والحلول في الحدثان عند ظهوره لأبصار العشاق والعارفين من لطائف الآيات وبراهين المعجزات.
تصديق ذلك قوله تعالى في نفي الأضداد والأشباه والأنداد والأوهام والجبال عن ساحة جلاله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ).
ثم وصف بعد وصف تنزيه المسيح ومريم بأنهما موضع آياته ، وبرهان صفاته ، وصفهم بالعجز في الإنسانية والضعف في البشرية عن حمل امتحانه تعالى بقوله : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) أي : هو من عالم الجلال أرسلته إلى عشاقي وعرفاني ، وأول من صدقه أمه ؛ لأنها شقائقه في مباشرة الآيات ورؤية الصفات ، ثم أحوجهما إلى علل الأبشار بوصفهما بأنهما كانا يأكلان الطعام ، هذا كناية وعبارة عن الحدث بذلك أبرأ عنهما الألوهية ، وكيف يليق بعزّة القدم تغاير الحدثان.
(تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢))
قوله تعالى : (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ) بيّن الله سبحانه ميلان الجنس إلى الجنس في الكفر والإيمان من تجانس الفطرة الأولية ، وأظهر بغضه لموالاة الأعداء بعضهم بعضا ، ومحبته لموالاة الأولياء بعضهم بعضا ، وبيّن أن موالاة الكفار توجب سخط الله عليهم أبدا ، وبقاءهم في عذابه أبدا ، ولا تظن في رضاه وسخطه أنّهما صفتان متغايرتان من جهة تأثير