قوله تعالى : (وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ) (١) الربّاني الذي نسب إلى الرب بالمعرفة والمحبة والتوحيد ، فإذا وصل إلى الحق بهذه المراتب والاستقامة في شهوده جلاله وجماله صار متصفا بصفات الله ، حاملا أنوار ذاته ، فإذا فني عن نفسه بقى بربه صار ربانيا ، مثله مثل الحديد في النار ؛ فإذا لم يكن في النار كان مستعدا لقبول النار ولم تكن نارا ، فإذا وصل إلى النار واحمرّ صار نارا ، هكذا شأن العارف ، فإذا كان منورا بتجلّي الرب صار ربانيّا روحانيّا نورانيّا ملكوتيّا جبروتيّا ، كلامه من الرب إلى الرب مع الرب ، فالربانيون عشّاق الله وأحباؤه ، الحاضرون من بين يديه ، المكاشفون وجه الله سبحانه ، والأحبار الذين يسمعون كلام الله من الله بواسطة المفرقون بين الحق والباطل بنور الله.
قيل : الربانيون الراجعون إلى الرب في جميع أحوالهم ، والأحبار العلماء بالله وبآياته.
وقيل : الربانيون العلماء بالله ، والأحبار العلماء بأحكام الله.
وقال ابن طاهر : الربانيون هم الصحابة الذين أخذوا كلام الرب عن السفير الأعلى ، والواسطة الأدنى ، والأحبار علماء الأمة العاملون بعلمهم.
قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) العارف مخاطب من الله في جميع أنفاسه وحركاته ، يتنزل على قلبه من الله وحي الإلهام ، وربما يخاطبه بنفسه ، ويكلمه بكلامه ، ويحدثه بحديثه كقوله عليهالسلام : «إن في أمتي محدّثين ومكلّمين ، وإن عمر منهم» (٢) ، فإذا لم يحكم بنفسه بما أنزل الله على قلبه بأن يخرجها من الشك إلى اليقين ، ومن الظلمة إلى النور ، ومن المخالفة إلى المتابعة ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن الشرك إلى التوحيد ، ومن الظلم إلى العدل ، ومن العصيان إلى الطاعة ، يكون موصوفا بأواخر هذه الآيات الثلاثة ، كفر أنعام الله الذي هو مقام الخطاب ، وظلم بأنه لم يضيع علمه على علمه ، وفسق عن مراد الله إلى مراد نفسه.
قال بعضهم : من لم يحكم للناس بحكمه على نفسه قد كفر نعم الله عنده ، وجحد سني مواهبه لديه ؛ فظلم نفسه بذلك.
__________________
(١) الربانيّ من كان لله وبالله ؛ لم تبق منه بقية لغير الله ، ويقال : الربّانيّ الذي ارتقى عن الحدود ، والربانيّ من توقّى الآفات ثم ترقّى إلى الساحات ، ثم تلقّى ما كوشف به من زوائد القربات ، فخلا عن نفسه ، وصفا عن وصفه ، وقام لربّه وبربّه ، وقد جعل الله الربانيين تالين للأنبياء الذين هم أولو الدّين ، فهم خلفاء ينهون الخلق بممارسة أحوالهم أكثر مما ينهونهم بأقوالهم ، فإنهم إذا أشاروا إلى الله حقق الله ما يؤمنون إليه ، وتحقق ما علقوا هممهم به [تفسير القشيري (٢ / ١٤٤)].
(٢) ذكره القرطبي في التفسير (١٣ / ١٧٤).