قوله تعالى : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) بيّن الله سبحانه أن واجبات العبودية لا تسقط عن العبد ما دام فيه الرمق ، إما في الخوف وإما في الأمن ، ومن تاه في الوجد وهام في الغلبة فهو مجنون العشق ، خارج عن مراتب التمكين ، وذلك علة له ؛ حيث ضعف في الوجد عن حمل وارد الشرع ؛ لأن سلطان الشرع حقّ الله ، وسلطان الوجد حظّ العبد ، وسلطان الله غالب على ما دونه ؛ لذلك أمر سيد الرسل والأنبياء والأولياء بإقامة الصلاة في مقام الاضطراب والتلوين والامتحان ، وهو سائح بحر المشاهدة ، وأصحابه فرسان ميادين المحبة ، وسادات أهل الولاية ، ولو سقطت العبودية عن أهل الوجد لما أمر لسيد الواجدين بأداء الفريضة في مقام الخوف.
والإشارة فيه : أي : إذا كنت بينهم فتكون الصلاة على وفق مراد الله من العباد.
وأيضا : إذا كنت فيهم فالصلاة ترجع إليهم ، وإذا غبت عنهم فالصلاة ترجع إلينا ؛ لأنهم في البداية في رؤية الوسيلة ، وفي النهاية في إسقاط الوسيلة.
وأيضا : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) اشتغلت بتأديبهم ، وإذا غبت عنهم اشتغلت بنا ، فالشرع خفي على العباد ، وخفي لك حجاب لحق مشاهدة الشرع في مواطن القرب ، بقوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّه ليغان على قلبي» (١) أي : شغلي بكم حين يمنعني قلبي من حظ مشاهدتي من الله.
وأيضا : أي : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) لأنك تدري أن ساحة كبريائي مقدسة عن وقوف المصلين ، وشريعة بحار قدمي منزهة عن ورد الواردين ، فالعبودية ترجع إلى العباد ، والربوبية ترجع إلى عظمتي وكبريائي.
وأيضا : إذا كنت مشغولا بمشاهدة جمالي ، وتسبح في بحار عظمتي فتضيف عالم الخدمة إليهم ، فإنك غائب بسترك في عيني وغيب غيبي وجلال مشاهدة أزلي ، وسقط عنك ما أوجبت على الغير ، وهذا موضع خاصّ له عليه الصلاة والسلام ، الذي قال صلىاللهعليهوسلم : «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبيّ مرسل» (٢).
قال الحسين بن منصور : ليس لله مقام ولا شهود في ناد ، ولا استهلاك في حيرة ، ولا ذهول في عظمته يقطع عن الآداب الشرعية ، ولا له مقام أوقف فيه الموحدين ، أشهدهم الشريعة أن جريانها عليهم علم للغير لا لهم.
ومما يصح هذا قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) فجعل إقامته للصلاة
__________________
(١) رواه مسلم (٤ / ٢٠٧٥) ، وأبو داود (٢ / ٨٤).
(٢) ذكره المناوي في فيض القدير (٤ / ٦).